مجلة الرسالة/العدد 140/الرسالات
→ الحياة الأدبية في بغداد | مجلة الرسالة - العدد 140 الرسالات [[مؤلف:|]] |
نظرية النسبية الخصوصية ← |
بتاريخ: 09 - 03 - 1936 |
للسيدة وداد سكاكيني
أتى على الإنسان حين من الدهر كانت تعبث به الأحداث، وتدور عليه الأفلاك، وهو في شرق الأرض تسوده الفوضى والجهالة، ويقوده الظلم والطمع؛ فكان كل امرئ ينتبذ مكاناً يحميه ويركن إليه هرباً من بطش فرعون وطغيانه الجارف
في ذلك العهد المظلم كانت امرأة مسلوبة الأمان، مشبوبة الفؤاد، تسير إلى جانب نهر زاخر، حاملة وليدها، حائرة في خطواتها، فأوِحيَ إليها أن تلقيه في اليم، وهي مطوية الحنايا على أمل باهر ووعد أكيد. . . ثم يأتي عهد يكون فيه موسى كليم الله ورسوله
حمل هذا النبي رسالة إلى بني إسرائيل، فانجلت غواشي الذلة عن عيونهم الدامعة، وتجلت لهم الحقيقة البارعة؛ لقد أنقذهم من جور الفراعنة، وأهدى إليهم الأمن والحرية، فتمت كلمة الله في أول دين هبط على الطور
ثم غبرت عصور وتعاقبت أحقاب، فإذا الرومان يعيثون في الأرض فساداً، ويملئونها حرباً واعتسافاً، وإذا كل قيصر جبار يستعبد الأمصار ويخرب الديار، فكانت الأفواه شاكية، والعيون باكية، تستغيث وتستجير، والأسماع المرهفة لا تبدي ولا تعيد، فأشفق الله على خلقه الضارعين وهو أرحم الراحمين؛ لقد أرسل إليهم عيسى بن مريم كلمته الخارقة، وأيده بروح القدس، فأقبل عليهم بدين الرحمة والمحبة والوئام، وخلص القوم من مظلمة الرومان ومرارة الحرمان
ولبث العرب في جاهلية جهلاء، ووثنية نكراء، وبؤس ملحف، وعيش مرهق، وقد كان قيصر الطاغي على عاتق من شبه جزيرتهم، وكسرى الباغي على عاتق آخر، وهم يُصْلون في أرضهم الجدباء نار الصحراء وشح الماء، فكان من رحمة الله أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم؛ لقد طلع عليهم محمد بن عبد الله بهدى كبير وخير كثير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ودانت له البداوة الأبية الشتيتة مجتمعة تحت راية القرآن، حتى بعثت من بطاحها القفراء ورمالها الرمضاء، إلى مدن ورحاب الدنيا حضارة وحرية وعلماً، فتهدّم مجد فارس، وتحطم عز الرومان، وأتم الله نعمته على العرب بدينه الحنيف، وإذا بفجر الإسلام الساطع يكشف الآفاق، ويشرق على الإنسان بنور الإخاء والحرية والمساواة، فكان سباق الأمم الحديثة التي تزعم أنها تسير على هدى، وتدعي الحفاظ على الحق والسلام
ثم يمخر بنو الإنسان خضم الزمن حتى يصلوا إلى شواطئ العصور الحديثة؛ فإذا انتهت رسالات الدين التي نزلت على الشرق، بدأت في الغرب رسالات الدنيا، وبينا الناس (بأوربة) في ذهول وخمول، تنقض ظهورهم المظالم، وتكوي جلودهم المغارم، وبعضهم يرسف في الأصفاد بالسجون، كان جان جاك روسو ومنتسكيو وفولتير ينشرون الكتب ليبصروا الشعب باستبداد الملوك، واستعباد الأمراء، وإذا هم ثلاثة رسل للثورة الفرنسية، وإذا مداد دُوٍيَّهم، وصرير أقلامهم، ينقلبان بعد قليل إلى دوي مدافع وسيول دماء؛ ثم تسكن الفتنة، وقد أعلنت حقوق الإنسان
وتتفتح الأعين في أرجاء الأرض على ضوء الحرية، فتقوم رسلها في كل أمة، وتسري عدوى المساواة إلى كل ملة، ثم يجر ذلك إلى مغانم شتى، ومطامع قصوى؛ وبعد أن تصرم قرن والناس في بحران سياسة ملتوية، احتدمت الحرب الكبرى، فهزت العالم هزاً عنيفاً. فلما وضعت الحرب أوزارها قام الناس من وقعها الأليم كأنهم ينسِلون من القبور
وتقوى في الناس عقيدة الرسالة ويسمونها زعامة، فينهض في الهند غاندي بجسم ضئيل وروح جبار، فيهز سيدة البحار، ويظهر في الترك مصطفى كمال فيخلقهم خلقاً جديداً، ويطلع في الألمان هتلر فيعيدهم سيرتهم الأولى، وتضيق إيطاليا بموسوليني فيغزو الحبشة بناشئة الطليان
أما في الشرق، فيعين الله الشرق! لقد حمل الرسالة فيه بمصر سعد زغلول، فبعث العروبة من مرقدها، وأيدها بروح منه، ونادى في الشرق أن حطموا الأغلال فتنالوا الاستقلال
المصلحون في الدنيا كثير، وهم رسل لأقوامهم، وإذا رجعنا إلى التاريخ قرأنا فيه صفحات دامية عما يعانون في جهادهم لتحرير الرقاب العانية من رباق الجهل والوهم والاستخذاء والاستبداد
وبعد فالشاعر رسول يصور بشعوره الصادق آلام أمته، ويجلو آمالها بروح العبقرية والإلهام
والأديب رسول حين يوجه الناس في آثاره إلى سبيل الخير وطلب الحق ومعرفة الجمال
والمعلم رسول يثقف العقول ويهذب الأرواح، فيبني الأمم وينشئ الرجال والعلماء المصلحون والأطباء المكتشفون، جميعهم رسل الإنسانية المتألمة يسدون إليها الخير والإحسان
كل أولئك رسل أبرار يخطون لأممهم المجد والخلود، ولا تكاد رسالاتهم تحصى؛ فلئن جعل الله رسالات الدين خيراً وأبقى، فان عنده رسالات الدنيا في درجة عليا
(دمشق)
وداد سكاكيني