مجلة الرسالة/العدد 14/في الأدب المصري القديم
→ من الشعر المرسل | مجلة الرسالة - العدد 14 في الأدب المصري القديم [[مؤلف:|]] |
نهضة الشعر العربي وموسم الشعر ← |
بتاريخ: 01 - 08 - 1933 |
فنون الشعر الفرعوني (القصائد، القافية، الأوزان، البديع،
الجناس)
للأستاذ حسن صبحي. مؤلف قصص البردى
يحفظ التاريخ للمصريين القدماء سبق الابتكار في كل ناحية من نواحي المدنية. فنراه يسجل لهم أولوية الصناعة كما ينعتهم بالزراع الاول، ثم يقص علينا من أنباء بعثاتهم التجارية إلى النوبة والى الشام والى العراق ما مكن لذوي المطامع منهم أن يستبسلوا في الإغارة على هذه البلاد بين حين وحين، وهم إذ ينتصرون يملكون الأرض ومن عليها فينشرون من أسباب المدنية بين أهل هذه البلاد ما بقي أثره إلى اليوم فيها سواء كان في أساليب الزراعة أو في طرائق الصناعة أو طرق التجارة، أو كان في اللغة والنحت والتصوير أو الموسيقى والرقص والشعر مما بقي أثره لهذا الوقت الحاضر في روح كل فن أو مهنة أو صناعة تمت للعصر القديم في أي من هذه الأقطار بصلة.
وكما كان المصريون في كل فن الأول فقد كانوا أيضا الشعراء الاول في هذا العالم، رأوا وأحبوا ما يحيط بهم من جمال الطبيعة الهادئة ومناظرها المتكررة الساكنة، فنظموا الشعر وقصدوه في وصف النيل ومجراه وفي مطلع الشمس ومغربها وفي فضية القمر وشحوبه، وفي خضرة الحقل ووحشة القفار. ثم عاشوا بين أسباب المدنية التي أقاموها فوجد الحب والبغض والحسد والشكر وقامت الحروب وأقيمت الصلوات، وأحسوا كل هذه الصور في الحياة فقالوا الغزل والحمد وهجوا واستعدوا وأشادوا واستنهضوا، وكان لابد لقول هذه الصور المختلفة من الحياة من قوالب تصاغ فيها، فخلقت القوالب وكانت القصائد والقوافي والأوزان والسجع، وتطور افتنانهم ورقى فدخلته التباديل ولعب فيه الجناس اللفظي. أليست هذه كلها أحدث فنون الشعر المصري؟
القصائد المصرية
مذ خلق المصريون القدماء لأنفسهم الكتابة الهيروغليفية وهم يكتبون الشعر في صورة غير صورة النثر. يكتبونه مقطوعات مشطرة ثلاثية أو رباعية الشطرات، متقاربة الطو مرتبطة المعنى، تستقل كل مقطوعة منها في مناسبة تميز المقطوعة من غيرها، حتى في أقدم صور الشعر، قبل أن يفطن المصريون إلى ضرورة فصل الشطرات عن بعضها بنقط حمراء في كتابته للدلالة على الوقف.
وانك لتجد في القصيدة التالية ما يعطيك صورة حقيقية لأقدم أشكال الشعر المصري وهي منقولة عن الأصل الهيروغليفي: أنت تبحر في سفينك العطري الخشب
يملأه الرجال من المقدمة إلى السكان
فتصل إلى مضيفتك العامرة هذه
التي ابتنيتها لنفسك
يملأ فمك النبيذ والخمير
والخبز واللحم والفطير
وتذبح الثيران وتفتح الأدنان
وتنشد الأغاني كلها أمامك
يضمخك كبير معطريك بالدهون الزكية
ويحمل إليك الأكاليل سقاتك
ويقدم إليك الطيور ناظر فلاحيك
كما يقدم إليك السمك صيادك
القوافي
وليس التشطير والمقطوعات وحدها هي ما تدل على شعرية النظم المصري وتميزه من النثر، لكن القوافي أيضا تدل عليه وتميزه. ولو أنها من نوع غير الذي نعرفه في شعرنا الحاضر في أية لغة من اللغات. فقد كانت قوافي الشعر المصري قوافي استفتاح يستهل بها الشاعر أبيات قصيدته ويكررها في مستهل كل مقطوعة كما ترى في القصيدة التالية المنقولة عن الهيروغليفية والمعروفة بقصيدة (جدل المتعب من حياته مع روحه):
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من رائحة الدود
في أيام الحر حين تكون السماء ساخنة شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من صيد السمك
في يوم الصيد حين تكون السماء ساخنة
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من رائحة الطير
أكثر من مستنقع فيه إوز
إلى آخر القصيدة الطويلة التي تبدأ دائما؛ (شوف كم هو بغيض اسمي)، وأنا إذ أعرب اللفظ المصري القديم إلى اللفظ الحديث الدارج (شوف) إنما أريد أن أعطي القارئ فكرة صحيحة عن معنى اللفظ الأصلي الذي يراد به أكثر من الرؤية بالعين، ومقصود به أن يلفت نظر القارئ أو السامع في تعجب لمبلغ التشبيه من نفسه ووقعه فيها. مما تحمله كلمة (شوف) الدارجة التي نستعملها في حديثنا الآن عندما نريد لفت النظر والحس إلى التعجب من أمر نهتم له.
الأوزان الشعرية
من النقائص الكبيرة في دراستنا لِلُغَةْ المصريين القدماء عدم معرفتنا معرفة أكيدة لنطق ألفاظها كما كانوا ينطقونها. وكل ما استطعنا أن نصل إليه في هذا النطق الذي احتفظت به اللغة القبطية لألفاظها وهي تأخذها من المصرية فتكتبها بحروف إغريقية وتخضعها حتما لاختلافات كثيرة متباينة يرجع بعضها لاختلاف نطق اللهجات المصرية بين صعيدي وبحيري وفيومي وأخميمي، والبعض لاختلاف نطق حروف الكتابة الإغريقية عن المصرية، والآخر لتدخل كثير من الكلمات الأجنبية في المصرية، وأخيرا لاضطرار الأقباط إلى نحت كثير من الألفاظ الجديدة مما يتفق مع تطور العمران وازدياد مقتضيات الحياة واتساع أسبابها.
لهذا كله نعتمد في أوزان الشعر على ما لدينا من الشعر المصري المتأخر الذي كتب في عهد المسيحية وبقي لنا باللغة القبطية يعطينا صورة هي أقرب الصور إلى الأصل القديم من غيرها.
والثابت الآن من قواعد النحو والصرف في اللغة المصرية القديمة التي أصبحت راجحة التفسير في العصر الحاضر إن كل كلمة ذات معنى في اللغة اسما كانت أو فعلا أو صفة لم تكن تحتوي إلا على حرف متحرك واحد شديد الحركة، وإذن فكل شطرة من شطرات الشعر المصري تحتوي على وقفتين أو ثلاث أو أربع هي مواقع الحروف المتحركة الشديدة الحركة بينها وهدات متفاوتة الطول والقصر تكون الميزان الشعري للشطر، وتكون بهذا الوصف ميزانا شعريا مطلقا لم تصل بعد إلى ربط صنوفه وتبويبها.
واليك مقطوعة من الشعر المصري المتأخر بنصها القبطي مشار تحت مواضع الحركة الشديدة في شطراتها بخطوط قصيرة والى جانبها تعريبها ولم أجد خيراً منها مثلا لبيان أوزان الشعر المصري:
النص المصري (بالقبطية) التعريب
ارشان إرأومي بوك ابشمو رجل آخر يذهب للخارج
تفر اورومي شاف اكتوف ابف أييدور سنة ثم يعود إلى بيته
أ - أرخيليتس بوك اتانزيف لكن أرحيليتس ذهب للمدرسة
اس أوميشي انهوا بينآ وأبف هو فكم هي الأيام حتى انظر إلى وجهه
البديع
والشعر المصري يفيض بالبيان والبديع، وهو في كل أطواره وعهوده يدل على أن الشاعر المصري لم يكن يكتفي بالسطر الواحد في المقطوعة ليدل على معنى يريد أن يصوره في صورة بارزة جميلة فاكسب بتلك الفصاحة لغته ثوبا أنيقا رقيقا. صوّر دقة إحساسه بما كان يبديه من العبارات المتشابهة المعنى المختلفة الألفاظ البديعة الاختيار، التي يقتضي تخيرها نعومة في الذوق وعلو لا يتفق لكل الناس. فهو يقول حين يتحدث عن (تحوت)
(يستيقظ القاضي - يظهر تحوت)
والقاضي هو تحوت إله الحكمة ثم يقول عن الملك.
(وعندئذ تكلم أصحاب الملك وأجابوا أمام ربهم)
وربهم هو الملك لكن لكل من الجملتين معناها الخاص على رغم تشابه الغرض. ثم انظر كيف يصف واقعة في موضع آخر: (أولئك الذين يدخلون إلى هذا القبر. . . أولئك الذين يرون ما فيه) هاتان الجملتان تبدوان للقارئ السطحي تكراراً، لكن القارئ الدقيق الإحساس يستطيع أن يتبين فيهما فرقا أراده الشاعر المصري القديم. هو يريد أن يأخذ يد الداخل إلى القبر فيضعها على ما في القبر من نقوش وتحف اكثر مما فيه من شيء آخر. أليس في هذا منتهى دقة الحس ونعومة التصوير؟
الجناس
وكما يشتهر المصريون في الوقت الحاضر بحبهم الشديد للجناس اللفظي الذي تفيض به الأغاني والأشعار الدارجة فان أجدادهم المصريين القدماء هم أصل التراث الفني البديع الذي يلذ للقارئ أن يطالعه وينعم بفكاهاته.
خذ مثلا الأغنية المصرية الدارجة:
يا دي الجمال والدلال والحب ونهاره
والشَّعر فوق الجبين كالليل ونهاره
والدمع فاض م الجفون كالبحر وانهاره
قلبي أسير في هواك ويحل انهاره؟
والكلمات الأخيرة في كل الأبيات متشابهة النطق لكنها تؤدي معاني مختلفة تمام الاختلاف.
مثل هذا الجناس كثير في الشعر المصري وجميل لكنه مستحيل الترجمة لأن اللعب فيه يدور على الألفاظ في علاقاتها بالمعاني، فإذا ما تغير اللفظ بترجمته فقد الجناس بطبيعة الحال. ومع ذلك فسأحاول أن أنقل هنا بضعة شطرات من هذا الشعر الذي يحتوي الجناس وأنا أعربه عن المصرية بتصرف كبير لأوفق فيه ألفاظ الجناس وأقربها للفهم لا أكثر ولا أقل، هي قصيدة طويلة في وصف عربة الحرب قال فيها واصفها:
(عرفت رأسها كل البلاد وخر لها القواد)
ورأس العربة أي مقدمتها، وإذ دخلت في ركاب الملك كل البلاد فقد عرفتها، ولأنها مصنوعة على شكل رأس كبش رمزا لآمون إله هذا العصر فان القواد جميعهم خروا سجداً لهذا الرأس. ثم يقول:
(مقابض عربتك عنات وعشتر)
يريد بذلك من جهة مقابض العربة التي يمسكها الملك وهو يحارب فيها، من الجهة الأخرى أن القابضين على زمام العربة هما إلها الحرب في الغربة.
ولا يستطيع القارئ مطلقا أن يتذوق جمال هذا الجناس إلا وهو يقرأ النص المصري القديم الذي يدل على مبلغ ما وصل إليه المصريون من الافتنان في الشعر والصنعة الشعرية ومبلغ حبهم للنكتة والتورية منذ أربعين قرنا مضت، ناطحتهم فيها شدائد توهن أصلب الأعواد ومع ذلك لم تذهب بروحهم الكبيرة ونفسهم المرحة مدى هذه القرون الطويلة.