الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 14/شروح وحواشي

مجلة الرسالة/العدد 14/شروح وحواشي

مجلة الرسالة - العدد 14
شروح وحواشي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 08 - 1933


ذكرى حافظ:

عجبت لهذا البؤس العنيف الملح كيف لازم حافظاً في عمره الأول ثم أبى ذكراه أن يفارق في عمره الثاني!!

قطع هذا البؤس مع الشاعر مراحل عمره الفاني جميعا فترك حياته المضطربة من غير منارة ولا مرفأ وداره الموحشة من غير ولد ولا زوج، واسمه النابه من غير جاه ولا مجد، وقلبه الشاعر من غير عزاء ولا أمل، ثم فرق بينهما الموت فانقلب حردان يعبث بما خلف الشاعر في الدنيا وفي الناس من أثر وذكرى، فتنكر الحكومة حافظا لأن من أسماء البؤس السياسة، وتهمل الخاصة حافظا لأن من أسماء البؤس النكران، ويغفل الشعب حافظا لأن من أسماء البؤس النسيان، وتثور الحفيظة من هذا الجحود بأصدقاء حافظ فيعتزمون إقامة حفل وتأليف كتاب وتشييد ضريح، ولكن البؤس المغيظ يطوف على أولئك الأصدقاء في دورهم، فيقول لأغنيائهم: امسكوا عن البذل، ولأدبائهم: امسكوا عن الكتابة، فحسب كل امرئ ما تباكره به الصروف كل يوم من هموم ومغارم! ويذكر الشباب الذين طالما هدهد الشاعر عواطفهم بأغانيه، وخلد مواقفهم بقوافيه، أن يوم الذكرى يقع في الحادي والعشرين من شهر يوليو. فيريدون أن يكفروا اليوم عن تقصير الأمس، فيقرر (اتحاد الجامعة المصرية) إقامة حفلة تأبينية، ثم يعلن عن مكانها وزمانها في الصحف، ويتقدم إلى الأدباء والوجهاء بالدعوة، ويعد الأستاذ (البشري) كلمته فيمن أعد، ثم يقبل من ظاهر القاهرة إلى نادي الاتحاد فلا يجد غير البواب يتحدث إلى نفر من زملائه، عن تعويض الحكومة للنوبيين وموعد أدائه! فيعجب الأستاذ ويغضب، ويستمر عجبه وغضبه يومين حتى يقرأ في بعض الصحف أن اتحاد الجامعة قد رأى تأجيل الحفلة إلى الأسبوع الأول من نوفمبر لتكون حفلة جامعية يشترك فيها أساتذة الجامعة وأقطاب الأدب. . . وأعجب من عجب الأستاذ ألاّ يخطر هذا السبب الخفيف ببال الاتحاد، إلا بعد إعلان الحفلة وتحديد الميعاد!! بؤسا لك يا بؤس حافظ!! لقد أسرفت في العبث حتى اتهم الوفاء، وتظنن البعداء وتردد على السنة الناس قول صاحبك:

فما أنت يا مصر دار الأديب ... وما أنتِ بالبلد الطيب على أن حافظا وقد فرض على أدب العصر سلطانه، وأجرى على لسان الدهر بيانه، وكتب في ثبت الخالدين أسمه لا يضره بعد ذلك نكران المنكر، ولا ينفعه عرفان العارف!

جاد الله بالرحمة ثراه، كلما تجددت في النفوس ذكراه، وجزى بالخير (أبولو) فقد كان عددها الخاص بالذكرى أخلص تحية صعدت إلى هذه النفس الكريمة، من هذه الدنيا اللئيمة!

تعليق على تعليق:

روى صاحب التعليقات في (البلاغ) أن أديبا مصريا علل شيوع الألفاظ (الجنسية) في أدب الدولة العباسية، بأن العربي لكثرة ما خالط الإبل والخيل والحمير فقد طبيعة الحياء، فأصبح يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء! ولو صح هذا التعليل المضحك لكان الأدب الأموي أمعن في المجون والأدب الجاهلي أدخل في الإباحية لصلتهما الوثيقة بحياة البداوة، وهما على النقيض من ذلك أعف الآداب العالمية، وأكثرها استعمالا للأساليب الرمزية. ثم كان من رأي الأستاذ المعلق أن السبب في ذلك إنما يلتمس في طغيان الحضارة لأن الكتاب الإنجليز مثلا لا يتحرجون اليوم أن يذكروا ما كان يتحرج منه بشار وأبو نؤاس بالأمس. والواقع أن فحش المجون في الأدب العربي لم ينبت في أصله ولم يأته من أهله، فإن شعراء المجون لم يكونوا بديا من العرب، وإنما كانوا من الموالي الذين أساءوا خلق الأمراء بالعدوى. وأفسدوا أدب الشعراء بالقدوة، وأكثر الأشعار المجونية إنما كان ينشد في المجالس الخاصة، ويروى على الألسنة الخاصة ويدون في الكتب الخاصة. فلو كان أولئك الأدباء يكتبون للنشر ويؤلفون للجمهور كما نفعل اليوم لطووا في نفوسهم أكثر ما نشروا. ولا تجد اليوم أديبا من الأدباء، إلا وله مثل هذه الأشياء، ولكنه يقصره على خاصته فلا يعلنها في الناس ولا يدونها في الكتب.

كوبري الخديوي إسماعيل:

كذلك كتبت الحكومة بخط الثلث الجميل على مدخل الجسر الجديد بقصر النيل، فهيأت للعابر المفكر موضوعا للتفكير يقطع به طول الجسر في راحة ولذة:

بماذا نعلل بقايا الألفاظ التركية في دواوين الحكومة المصرية، ولم يعد لأمتنا بالتركِ صلة ولا للغتنا بالدخيل حاجة؟

منذ سنوات تخلص الترك من العرب وقد كانوا خاضعين لسلطانهم الأدبي فرأوا من الغضاضة على استقلالهم أن يظل لسانهم خاضعا للساننا، وأدبهم تابعا لأدبنا، فأخذوا يحررون التركية من الألفاظ العربية (وهي معظمها) ويستبدلون بها ألفاظا تركية خالصة أو إفرنجية مشوبة ثم ترجموا القرآن وتركوا الأذان. وأعجموا الصلاة، وفرضوا التركية فرضا على الأجانب في المدارس والمصارف والأسواق. ومنذ سنوات تخلص العراقيون من الترك (وقد كانوا خاضعين لسلطانهم السياسي) فكان أول ما عملوه أن طهروا العربية من شوائب التركية في الدواوين والقوانين والمدارس والجيش. واستبدلوا بهذه الألفاظ الدخيلة على أصالتها وكثرتها ألفاظا عربية صريحة.

ومنذ قرن ونيف تخلصت مصر من الترك ولكنك ما تزال تسمع في البيوت تيزا وأبلة وأبيه وإنشته، وفي المدارس قلفة وطابور ويمكخانة وبحيث جزيرة، وفي الدواوين ألفاظا وأساليب ليس إلى حصرها من سبيل وأما في الجيش فأسماء رتبة وفرقه وعتاده ومصطلحاته وإيعازا ته كلها تركية فبماذا نعلل هذا؟ تعليل ذلك فيما أظن أن الأمة المصرية من أشد الأمم الشرقية إحتفاظا بالقديم، وتسليما بالواقع، ورضا بالحاضر مع ما قد يكون في ذلك كله من شر فليس من طبعها ذلك القلق السامي الذي يدفع النفوس إلى التجدد ويحفز الأمم إلى التقدم ويربأ بالإنسان أن يقنع من حياته بالنصيب الأخس، وتقدم الأمم على هذه الحال في سبيل الكمال عسيرا أو بطيء.

رفقا بالقوارير يا أبا السامي!

نشرنا في عددنا الأخير رأيا للآنسة عفيفة في (أوراق الورد) للأستاذ الرافعي، ورأت الرسالة مؤاتاة الفرصة ليمتع الأستاذ قراءها بفصل من فصوله الرائعة فتركت له الكلمة وتفضل الأستاذ فكتب. ولكنه حين وضع يده على الدواة ليتناول القلم الذي كتب به (أوراق الورد) أخطأ فتناول القلم الذي كتب به (على السفود). لحظنا هذا السهو حين قرأنا هذه الكلمة فطويناها معتقدين إن الكاتب الكبير سيتبعها كلمة أخرى تكون منها مكان (بدل الغلط)، تشاركها في الإعراب وتنفرد دونها بالصواب.

أحمد حسن الزيات