الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 139/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 139/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 139
التاريخ في سير أبطاله
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 03 - 1936


ميرابو

ميرابو. . . تلك الأعجوبة

جوته

للأستاذ محمود الخفيف

تتهيأ بواعث الحركات الشعبية وتتلاقى في تياراتها على كر السنين، وما تزال في نموها واطرادها حتى ينفجر سكونها بغتة عن عاصفة، ثم لا تلبث تلك العاصفة أن تتمثل في مظهرين: فكرة ورجل! على هذا النحو هبت العاصفة في فرنسا عام 1789، فأما عقيدتها فكانت ما أعلنته الثورة من مبادئ، وأما رجلها فكان ميرابو

أجل، كان ميرابو رجل الثورة في أولى مراحلها، ذلك لأنه حين ألقى بنفسه في بركانها لم تلبث أن وجدت في لسانه ترجمانها، وفي شخصه عنوانها؛ فلقد نبض قلبه بمشاعرها، وامتلأ رأسه بآمالها، وانطلق لسانه بأناشيدها، وكان لها أكبر عون في حدة ذهنه، ويقظة وجدانه، وقوة جنانه، وسحر بيانه، فألقت إليه مقاليدها برهة، فلما التوت عليه واتخذت طريقاً يفضي إلى هلكتها وجدت فيه الرجل الوحيد الذي يبذل غاية جهده ليحجزها عن وجهها، ثم لما قضى نحبه، لم تدر ما تأكله فأكلت نفسها.

من أجل ذلك لا تستطيع أن تفهم الثورة حق الفهم دون أن تفهم ميرابو، وكذلك لن تستطيع أن تعرف ميرابو أصدق المعرفة إلا في غمار الثورة، فما كان قبل الثورة إلا رجلاً كمن حوله من الرجال، بل لقد كان من عدة وجوه دون الكثيرين منهم، فلما أفاقت على صيحتها نفسه، أصبح الرجل الذي ينعدم قرينه في الرجال!

لكن ما جره عليه نكد طالعه قبل الثورة كان ذا أثر عميق في سيرته يوم جن جنونها، حتى لقد كان الناس على الرغم إكبارهم مواهبه في لبس من أمره دائماً، يفسرون آراءه واتجاهاته بما كان من ماضيه، فصار وهو الكوكب الساطع في سياسة وطنه يعاني مما انعقد حوله من الشبهات أضعاف ما يعانيه من غباء معاصريه ونزقهم.

عودته غلظة أبيه وسوء معاملته إياه الحنق عليه والكراهية له، وأتت سياسته على العكس مما كان ينتظر، وكان من الأشراف الذين يحلو لهم العناد، فلم يدع وسيلة يرى فيها ك شوكته إلا جربها، حتى السجن أرسله إليه مرارا بواسطة تلك الخطابات الملكية المختومة التي كان لها حكم القانون.

ولكن السجن لم يردعه ولم يصرفه عن الإسراف والاستدانة ولما هم أبوه أن يرسله إليه مرة أخرى فر هارباً مع خليلة كان قد هام بها على الرغم من احتجاج زوجته، وعلى الرغم من حدب بعلها عليه وإكرام مثواه حين كان يزوره في منزله.

وهنالك في هولندا حينما أنفق ما حملته معها خليلته من المال لم يجد له مرتزقاً سوى الكتابة، فوضع رسالة في الحكم الاستبدادي ذاع بها اسمه بين الناس، وأتبعها غيرها في الاقتصاد وكانت له فيها آراء صائبة، غير أن حياة التشريد قد ألقت به في كثير من مواطن الزلل، فكان يستدين مرة ويستجدي بعض ذوي الثراء حيناً، ويلجأ إلى ناشري الكتب أحياناً يعركهم ويعركونه حتى يتقاضاهم بعض المال ثمناً بخساً لرسائله

وما كان ذلك الشقاء ليقهر نفساً لا تقهر، بل لقد أوحى إليه الانتقام من أبيه، فلما علم وهو في غربته بما شجر بينه وبين أمه من نزاع ومقاضاة، كتب رسالة صغيرة يحمل فيها عليه ويرميه بالغباء والجهل في أسلوب لاذع، وأرسل منها عدداً إلى أمه، ولكنها وقعت في يد أبيه، فبلغ الحنق من نفسه كل مبلغ واستعمل نفوذه، فإذا بابنه وخليلته يرسلان إلى فرنسا، حيث ألقيا في السجن كل جزاء فعلته.

وكان السجن في هذه المرة قاسياً إذ حرم عليه أول الأمر كل ما يخفف عنه آلام وحدته، ولكنه استطاع أن يسحر حراسه بقوة شخصه فأتوا له بما طلب من الكتب والورق والصحف، فكان فيها بعض السلوى لنفسه الوثابة

ولقد لبث في السجن بضع سنين، أعاده بعدها أبوه إلى الحياة الطليقة، وهو يظن أن السجن قد نال من كبريائه، ولم يدر أن الأسر قد زاد عوده صلابة، وعلمه كيف يروض نفسه على البأس، وكيف يستهين بالألم إذا فكر أحد في ارغامه، ولذلك عاد إلى التبذير والسفه، ولج في عناد أبيه وسوء معاملة زوجه، ثم اخذ ينشر من الآراء في المال والسياسة ما أغضب عليه كبار رجال الدولة، فهم أبوه أن يلجأ من جديد إلى خطاب مختوم ولكنه هرب وطوف في إنجلترا وبروسيا وسواهما من ممالك القارة وهو لا يكاد يجد ما يتبلغ به.

أكب في أسره على المطالعة، فالتهم ما حمل إليه من الكتب التهاماً، وكانت له مقدرة خارقة على استيعاب ما يقرأ، ثم هيأت له أسفاره أسباب الخبرة الصحيحة، فصاحب أخلاطاً من الناس، ورافق أنماطاً من الساسة، وشاهد ألواناً من المجتمعات، ومارس ضروباً شتى من الأخلاق والعادات

على أن أصالته كانت أعظم من كسبه كما كان وحي عبقريته أكبر خطراً وأبعد أثراً في تكييف سلوكه من كل ما زودته به الكتب من آراء، ولكن تلك العبقرية كانت في حاجة إلى ما يستثيرها، كانت فيما يحيط به من ظروف العيش، وما يكتنفه من الحوادث كالجمرة طغى عليها الرماد، فما أن تهب العاصفة حتى تظهر وتتوقد وتبهر جذوتها القلوب والأبصار، وما كانت العاصفة إلا الثورة وهي من وطنه على الأبواب.

بيد أنك تراه الآن ولما تواته الثورة يعيش من نفسه في ثورة! فلقد كان بطبعه عسوفاً عنوفاً لا تعرف نفسه الهدوء كما لا يعرف جسمه الدعة، يميل بكل ما في طاقته إلى النضال والتحدي، فيحمي على المجادلة، ويستعر على الجلاد، ولا يستقر إلا على الظفر والتفوق.

وكان قلبه الكبير مليئا بالأحاسيس، جياشاً بالعواطف، وكثيراً ما كانت حدة عاطفته مبعث مواقفه الفذة ومثار شجاعته حين كانت تستحكم الأزمات فلن يخرج الوطن منها إلا بشجاعته. وكان ذا مقدرة غريبة في إثارة العاطفة في قلوب من حوله حتى لكأنهم منه حيال ساحر عجيب، وهو في فورته يتناول كل شيء ولا يكاد يتجه إلى فكرة حتى يثب إلى غيرها، ولا يكاد يسنح له خاطر حتى تتوارد على رأسه الخواطر، وما كان ليضيق بها، بل لقد كانت على وفرتها اقل من أن تقنع روحه أو تشبع عاطفته. قال أبوه يصف توثب روحه: (إن روحه كالمرأة المتحركة ينعكس فيها كل شيء ولا يستقر فيها شيء)

ولقد كان من أظهر خلاله وأعظم قوى نفسه، شدة تأثيره فيمن حوله، يحس من يقترب منه هيبة خفية لا يتبين مبعثها، وينجذب إليه من يستمع له انجذاباً يبعث على العجب! ولقد بلغ من شدة تأثيره أنه كان يحمل رجال السجن على احترامه بل على محبته، وتلك عجيبة من عجائب النفس لا تزال سراً مستغلقا على الإفهام.

على أن أبرز صفاته جميعاً وأوثقها علاقة بمستقبل حياته، هي قوته الخطابية، فلقد كان ميرابو خطيباً عبقرياً بكل ما تتسق له تلك الكلمة من معنى. وهو عند الكثيرين من المؤرخين أقدر خطيب شعبي في التاريخ الحديث، وأشد الخطباء تسلطاً على أفكار سامعيه وأسرعهم توجيهاً لمن حوله إلى ما يريد.

كان في أسلوبه رجل فن كأعظم ما يكون رجل الفن، عرف أو على الأصح ألهم اختيار الكلمة القوية وصوغ العبارة التي تجمع إلى إشراق المعنى بعد المرمى وعمق المغزى. وكانت تواتيه عبقريته إذا تسنم المنبر فتسمو به عن مستوى الرجال، فتراهم شاخصة أبصارهم إليه خافقة قلوبهم بما ينطق، فإذا احتدم الجدل أو اشتد الموقف خطراً نظرت فإذا به أعظم مما كان حماسة وأسرع تدفقاً وأكثر إقناعاً ورأيت عبارته ترتفع وتعظم حتى تلائم الموقف، وسمعت في نبرات صوته أزيز نفسه وغليان دمه. كان في جولاته كنابليون في غزواته! تزداد عبقريته ملابسة له كلما ازداد الموقف من حوله هولاً. ولقد فاه بأبلغ عباراته وأبعدها أثراً في نفوس سامعيه في مواقف الحماسة الفائرة كأن كلماته الحيتان الضخمة لن تظهرها إلا العاصفة!

وكان له فضلاً عن ذلك من هيبة منظره وقوة صوته ورنين جرسه وشتى إشاراته كل معدات الخطيب. كان كبير الجرم، قوي الجسم، عريض المنكبين، عظيم الصدر، ترى في وجهه الجاد العابس آثار جراح اندملت كأنك تلمح فيها صرامة الحوادث وصروف الزمن، وكانت ترتسم ملامح وجهه بانفعالات نفسه، كما كانت تلتمع عيناه وتختلجان فتبعثان الرهبة أو تثيران الشفقة. أما عن قوة أعصابه وضبط نفسه وصدق فراسته وتفهم الغاية التي يرمي إليها وتخير أقرب الطرق وأسهلها إلى تلك الغاية فكان في ذلك كله مضرب المثل بين معاصريه.

والآن فلندع مقدرته على الخطابة حتى نشاهد آثارها في مجلس طبقات الأمة وفي الجمعية الأهلية، ويجمل بنا أن نتبين قبل انعقادها بعض آرائه السياسية.

لم تك أصالة ذلك الرجل الفذ في الساسة أقل من أصالته في الخطابة، فلقد جمع إلى حماسة القلب حدة العقل، وإلى ثورة العاطفة اتزان المنطق، وإلى جموح الخيال وضوح المنهج، وإلى وحي العبقرية شمول النظر، وصدق التجربة واتساع الخبرة، وإن المرء ليدهش حقاً إذ يرى ذلك كله في رجل. ولقد صدق جوته حين وصفه في قوله: ميرابو. . . تلك الأعجوبة!!!

كان لهذا الزعيم غرض يرمي إليه ونهج يسير عليه. نشط قبيل الثورة في نشر مبادئه، عندما عاد من برلين للمرة الأخيرة، وكان قد أوفد إليها من قبل الوزير كالون في مهمة سياسية عام 1787 أي قبل هبوب العاصفة بعامين، وخيل إلى أن الوزير إنما أراد إبعاده، فلما استقل ميرابو ما كان يصله من أجر عاد إلى وطنه مغيظاً محنقاً فشهر قلمه للطعن في كالون ونكر صديق الشعب، وابتدأ الناس يحسون خطره كناقد سياسي، نعم أحس الناس روحاً جديدة في كتاباته واستشعروا أن صاحبها يمتاز ممن عرفوا من الرجال. اقرأ مثل قوله في نقد نكر (ليعلم الذين يحسبون أنهم لا يستطيعون أن يحبوا الله خالقهم أو أن يحبوا الملك والوطن إلا أن يعبدوا نكر، إنهم في ضلالتهم يعمهون. هل فكروا في أن تفاخره بأنه يستطيع أن يعقد أي قرض دون زيادة في الضرائب موضع عار لا موضع فخر؟ هل فكروا في أنه بذلك قد استطاع أن يستهوي أولي الأمر في هذه الدولة، فيدفع بهم إلى حرب تبرأ منها الإنسانية، فضلاً عما يتبعها من خراب مالي؟ وهل يغنيهم ما يعلمون من حسن خلقه وطيب نفسه عن نجاح سياسته كوزير؟) اقرأ هذا وغيره تر أن الثورة قبل هبوبها قد اهتدت إلى زعيمها، وتلق الرجل في مستهل مرحلة جديدة في حياته العجيبة، مرحلة الجد الحكيم والوقار العاقل والجهد المتواصل.

راح يعلن للناس أنه عدو الامتيازات والاستبداد، وأنه لن يقعد عن الجد حتى يرى الناس سواء أمام القانون، ويرى الحرية حقاً يتمتع به كل فرد، ويرى التعليم نوراً ينفذ إلى جميع الطبقات، والرخاء المادي حصناً يقي الوطن غائلة الفاقة. وهل كان للناس مطمع وراء هذا؟ وهل كانوا يتغنون بغير هاتيك الأناشيد؟ ولكن ميرابو لن يقبل أن يسعد الشعب على حساب الملكية! وإذاً فهو يسعى من جانب آخر إلى أن يكون للملكية نفوذها وسيادتها على أن تستمد ذلك من الشعب صاحب الحق. ولئن كان يمقت من أعماق قلبه الفوارق بين الطبقات وقيود العهد الإقطاعي، فان بدنه ليقشعر فرقاً من الفوضى وإنه ليرى الطامة الكبرى في جموح الشعب وتعديه حدوده.

بهذه المبادئ وبما عرف عنه من مقدرة خطابية فائقة، تقدم ميرابو للانتخاب في مدينة إكس ليشون نائباً عن العامة في مجلس طبقات الأمة، بعد أن نأى الأشراف بجانبهم عنه. وعلى الرغم من كيد خصومه له خرج من المعركة ظافراً داوي الصيت

(يتبع) الخفيف