مجلة الرسالة/العدد 138/وقائع كأنها القصص
→ قصة واقعة: | مجلة الرسالة - العدد 138 وقائع كأنها القصص [[مؤلف:|]] |
نظرية النسبية الخصوصية ← |
بتاريخ: 24 - 02 - 1936 |
السر
بقلم محمد مصطفى حمام
دخلت على الباشا والمجلس حافل والسرور شامل، فلقيني بما عود زائريه من بشاشة وترحيب، وأقبل بعدى آخرون يخلفون أعماراً وألواناً، فمنهم الشيخ العتيق المحطم والفتى الأنيق المهندم، ومنهم الحضري الناعم والفلاح الخشن، فتقبل الجميع بقبول حسن، وأفاض عليهم من عطفه مثل ما أفاض عليهم من عطفه مثل ما أفاض عليّ
وجاء الخادم يبشر بزائر جديد شعرت عند سماع اسمه بكثير من السرور، فهو اسم أحد السراة الظرفاء الذين سمعت عنهم دون أن ألقاهم، وما كان أشوقني إلى هذا اللقاء!
ولم ينتظر الزائر آذن الباشا بالدخول، بل اقبل في أثر الخادم، وإذا نحن نستقبل رجلاً سمهري القامة، بهي الطلعة، وافر الحظ من المهابة والروعة، ولقد أهتز له المجلس تعظيماً وإكباراً، إلا الباشا فلم يعبأ بمقدمه، ولم ينشط لاستقباله، بل صافحه وهو لاصق بكرسيه، ثم أشاح وجهه عنه، وأقبل بالحديث على سواء
وأخذتني من هذا اللقاء السيئ دهشة وعجب، وجعلت التمس للأمر كثيراً من العلل
قلت لنفسي: قد يكون القادم من الأنسباء أو ذوي القربى، فلا حاجة بصاحب الدار إلى المبالغة في تكريمه، أو لعل اقتحامه المجلس دون انتظار الإذن هو الذي أغضب الباشا عليه
ورأيت جو المجلس قد أظلم بعد استقرار الضيف الجديد في مكانه، وبد على الباشا ضيق وضجر، وحاول الرجل أن يظفر من صاحب البيت بلفتة إليه، أو إقبال عليه، فلم ينل إلا جفاء وإعراضا
ثم انحنى على الباشا يحاول أن يسر إليه حديثاً، فنهره كما ينهر السائل، وصاح به وشرر الغضب يتطاير من عينيه:
لقد أنقطع ما كان بيني وبينك، فلا تعكر صفاء مجلسي بقدومك، ولا تحاول استرداد مودتي فذلك ما لن يكون
وانصرف الزائر خاسئ البصر، لا يكاد يرى مما حوله شيئا، وودعناه راثين لحاله! وأخذ المجلس يتبدد، حتى لم يبق إلا أنا وصاحب الدار، فلما هممت بالانصراف استبقاني
قال الباشا: لعلك أسأت الظن بأدبي؟
قلت: معاذ الله
قال: أضنك في دهشة من سوء لقائي لضيفي، وربما أهمك أن تعرف السر
قلت: لا أرى في معرفته باساً
قال: لا يزال الصديق محباً إلى قلبك، رفيع القدر في عينك، حتى تكشف لك الأيام منه عن عورة لا تستطيع الإغضاء عنها، فمالك يومئذ من ذنب إذا سقط عندك مقداره، وتمكن من نفسك احتقاره
هذا رجل صاحبني خمسة أعوام كاملة، ملأ في خلالها جوانب قلبي، واستأثر دون الأصدقاء بحبي، وجمعت بيننا مجالس بعضها لله وبعضها للشيطان، وفي أمثال هذه المجالس أسخو بالمال وأكون المتلاف المبذال
وكان هذا الرجل زميلي في كل هذه المجالس، ودليلي إليها في أكثر الأحيان
وقادني إلى بيت في حي من اجمل أحياء المدينة. نادمنا فيه نسوة ثلاثاً كأنهن الحور العين، فقطفنا منهن ورد الخدود، وداعبنا غصون القدود، وصار هذا البيت معهد غرامنا نسعى إليه بين الحين والحين، ولكن في جنح الليل، وفي غفلة من الجيران
وما هي إلا اشهر معدودات، حتى علمت علم اليقين إن هذا البيت الذي نعبث بنسائه ونلهو، هو بيت صاحبي دون سواه! وان نديماتنا هن امرأته وقريبتاه! هن اللائى نغازلهن ونقبلهن! وهن اللائى ينلن مني أجر العبث بهن، أدفعه سخياً كريماً، ويتقبلنه راضيات فرحات!
ولقد أخذني من هذه الحقيقة المؤلمة هول وفزع، فقد تكشف لي صديقي عن نفس خبيثة وعرض ممزق!
قلت: فهلا كاشفته بما علمت من دخيلته؟
قال: لقد كان عذره اقبح من ذنبه، فقد أفهمني أنه وقد عرف فيّ البعد عن الجريمة المنكرة، وجرب عليّ القناعة بالقبلة والمنادمة، وشهد سخائي في البذل، رأى أن يؤثر نفسه ونساء بيته بمالي، فهو وهن أحق بذلك المال الذاهب هباء، والملقى إلى أناس آخرين، ولم يجد في الأمر ثلماً للعرض ولا نقصاً من الشرف، وما دام الغزل لا يصل إلى نهايته الأثيمة!
وتراءت في عيني صورة الرجل حين رأيته لأول مرة، وقارنت بين جمال المنظر وسوء المخبر، فذكرت قول الشاعر:
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأعراض غير حسان!
محمد مصطفى حمام