مجلة الرسالة/العدد 138/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ صورة. . . | مجلة الرسالة - العدد 138 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
أجاممنون ← |
بتاريخ: 24 - 02 - 1936 |
31 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
تعليق المؤلف على فلسفة نيتشة
للأستاذ خليل الهنداوي
يتمتع نيتشه بما لا يتمتع به فيلسوف أخر، لان تفكيره قد تناول بالبحث أرباب الفلسفة وغير أربابها. وقد طغت (النيتشية) في الأعوام الأخيرة أي طغيان، فأما المعجبون به فهم يرون فيه المفكر الفرد الصارم العميق في جرمانيا الحديثة، له منزلة (دارون) في الأخلاق. وأما خصماؤه فهم لا يرون فيه إلا ولداً مريضاً، له خطره ومبدؤه الفاسد. وبينهما يقف الشعب حائراً، تراه من ناحية معجباً بآثار هذا الجبار ومظاهر تفكيره الغريب، ومحترساً من ناحية ثانية من مفكر ناقم على الأخلاق والتقاليد؛ والآن سنعمل على تبيان الأسس الرئيسية التي ترتكز عليها فلسفة نيتشه، والأهمية التي تنشأ عنها.
هدم النقاد فلسفة نيتشه من وجهين: في الوجهة الأولى أبدوا أخطاءها العملية. وفي الوجهة الثانية بينوا خطرها على الأخلاق
إن نيتشه في الطور الثاني من حياته لم يكن يكتسب شيئاً ولم يكن في استطاعته أن يكون عالماً؛ ولقد علمت رداءة صحته التي تحول بينه وبين مواصلة جهوده في البحث. فهو قد بدأ حياته العلمية بدراسة اللغات، ثم لم يلبث أن غادر هذا الميدان إلى غيره؛ وهو لم يكن في سائر العلوم إلا هاوياً، لا يسعى وراء ترقية هذا الفرع وذلك الفرع في العلوم، ولكنه يريد من وراء ذلك أن يبدع مسائل جديدة، أو يكسو المسائل القديمة ثياباً جديدة! فهو لا يؤثر في العلم نفسه ولكن في روح العالم. فان اشتقاقاته التي استنبطها في دراساته للغات القديمة لم تكن لتلائم الحقيقة، ولكن ذلك لم يكن ليحفل به، فهو يبغي أن يظهر طرق درس المسائل الاجتماعية بواسطة الدراسة اللغوية، فالقيمة الجوهرية لملحوظاته الخاصة هي شيء ثانوي عنده، سواء عنده حياتها ومماتها، فهو يكفيه فضلاً أن ينفخ في نفوس هؤلاء الدارسين روحاً جديدة ويفتح لهم آفاقاً جديدة.
ولذلك نراه في آخر أدواره جد قلق، يسعى بواسطة الدراسات اللغوية إلى أن يستكش الحياة الاجتماعية، وحضارة ما قبل التاريخ مستعيناً بدرسه ومقارنته بين اللغات
وإذا شئنا أن نوضح بعض خطيئات نيتشه فلا ننس أن آثاره كلها (ذاتية) والحقيقة - غير الذاتية - يراها نيتشة ضرباً من ضروب العاطفة الدينية؛ وإننا لنطلب إلى العالم ألا يحترم إلا الحقيقة، وأن يكون في بحثه عنها خالياً من الأهواء متجرداً عن شخصيته - على قدر الإمكان - وإننا لنعلم أن التجرد عن الذاتية في البحث عن الحقيقة هو خديعة، ونعتقد أن ليس في مقدور أحد أن يتجرد عن شخصيته وينظر إلى الأشياء نظرة خالصة لا تجتلي إلا الأشياء؛ وبهذا ليست كل حقيقة ذاتية قبل كل شيء: وجوهر الموضوع - في البحث العلمي - لا يقف عند ما اغترفه الكاتب من حقيقة، ولكنه يقف على مقدار ما أودع في هذه الحقيقة من ذاته. ونحن على رغم هذا أرانا نؤمن بالحقيقة المجردة، الحقيقة البارزة بحقيقتها خارج إدراكنا وحواسنا، وأرانا نؤمن بالمؤلف ويزيد احترامنا له كلما دنت أفكاره مما ندعوه (الحقيقة المتجردة من الذاتية)
لنا الحرية في أن نزن آثار نيتشه بهذا الميزان، ولكن نيتشه كان قبل كل شيء يفتش عن نفسه ويسعى وراء معرة نفسه؛ ولقد كان اهتمامه ضعيفاً في الاطلاع على الأشياء بحقائقها، وإنما وقف اهتمامه كله وجهوده على ما يمثل شخصيته، فخلق من الأشياء خرافات كاذبة، وقد علم أنه بما وصف نفسه حين كتب عن (شوبنهاور وفاجنر) أنه حول الحقيقة إلى خرافات جذابة غريبة، ولأن تكون مظاهر لشخصية نيتشه أجمل وأحرى من أن تكون مظاهر تمثل حقيقة الوجود الخارجي، وبهذا يصبح عبثاً سعينا وراء الحقائق التي عالجها نيتشه والعمل على توفيق بينها وبين الواقع
وهنالك تأثير معاصريه فيه - سواء أحس هو هذا التأثير أم لم يحسه - وفكرته التي جاء بها - إذ جردت من أثوابه الخاصة - تبدو فكرة قديمة ليست بابنة ذاته. فكل الآراء التي عالجها، من قوله بالذاتية وعبادة النفس والثورة على قانون المساواة وعبادة الإنسانية قد سبقه إلى معالجتها أحد معاصريه كما سبق (فلويير) و (رنان) إلى الكتابة عن المذهب الأرستقراطي. وقد وجد نيتشه في الكاتب (أوجين دوهرنك) عضداً له في محاربة التشاؤم. واتحد مع (هارتمان) في النفور من الاجتماعيين والفوضويين، واتفق معه في القول باستحالة المساواة بين الناس، فقالا بفضيلة الحرب المدنية، واتفقا على جعل الشفقة مادة غير صالحة للفضيلة. وكذلك نرى مذهب الرجعة الدائمة يتجلى في كتاب (لبلانكى)! وفي كتاب الدكتور (لوبون: الرجل والمجتمعات). ولكنا - وإن قارنا بين نيتشه وبين هؤلاء المعاصرين - فان هنالك تبايناً شاسعاً مهما كانت الأفكار متقاربة متآلفة. وعلة هذا التباين شخصية نيتشه. ولقد نراه في بعض خطرات يتحامل على هؤلاء الأحلاف، فمقت من (رينان) روحه الكاهنة، ونعت (هارتمان) بالمشعوذ. وليس نفوره هذا وليد حقد أو حسد، وإنما هو وليد طبيعة تختلف جد الاختلاف عن طبائع خصومه. هذه الطبيعة التي تؤمن بأن الشخصية في الفيلسوف هي أكبر قيمة وأجل خطراً من آثار الفيلسوف
على أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى إنكار فضيلة كل حقيقة غير ذاتية إكراما لقوة الشخصية عند نيتشه، وإذ ذاك يعم الجور والخطأ في الحكم. وأنني لمعتقد بان المؤرخ والفيلسوف يستطيعان أن يجدا عند نيتشه حقائق جميلة بذاتها. وهنالك آراؤه في (فاجنير) يراها المؤرخ جديرة بالاعتبار لأنها تبدى قيمة الفنان العظيم. وهنالك آراء لنيتشه يجدر بها أن تكون محل مناقشة ومجادلة، على أنني أقول أن عبقرية نيتشه لا تستقر إلا في (الذاتية)
الآن أراني أستشهد بكلمة (لبراندس) قالها في موضع التحدث عن فيلسوفنا حينما قارن بينه وبين خصومه فلاسفة الإنجليز. (قال: وحين نقبل عليه. . . (نيتشه) بعد مغادرتنا لفلاسفة الإنجليز نرى عالماً جديداً حولنا. فالإنجليز هم عقول متشابهة في الصبر والجلد، غرضهم أن يتقنوا الشيء جزءاً جزءاً ثم يجمعوا هذه الأجزاء الصغيرة المتفرقة ليؤلفوا منها شريعة وقانوناً؛ يعملون غير متأثرين بذاتهم؛ وقيمة فلسفتهم تتوقف على ما يعملون لا على ما ترقى إليه ذاتهم؛ أما نيتشه فهو على نقيض هذا المذهب، هو مثل شوبنهاور متنبئ فنان، تستهويك شخصيته قبل أن تستهويك آثاره.) وإذ شئنا إبداء قيمة آثاره فليس لنا أن نتلوها تلاوة كتاب علمي لا تتوقف روعته على روح صاحبه. نتلوها لنرى الروعة فيما بث هذا الرجل من معارف قديمة بسطها وجديدة وضعها
يرى نيتشه في معرض كلامه عن شوبنهاور (أن مذهب المفكر لا شأن له، فكل فيلسوف ممكن انخداعه. أن ذلك الشيء الذي هو أجل من مذهبه - هو نفسه - في كل فيلسوف شيء لا تجده في فلسفته. علة كل الفلسفات والمذاهب هي الإنسان، الإنسان العظيم (التتمة في العدد القادم)
خليل هنداوي
القصص
مأساة من أسخيلوس