مجلة الرسالة/العدد 137/أساليب الكفاح الدولي بين الأمس واليوم
→ السمكة | مجلة الرسالة - العدد 137 أساليب الكفاح الدولي بين الأمس واليوم [[مؤلف:|]] |
الاستعمار والتعليم ← |
بتاريخ: 17 - 02 - 1936 |
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تثير المشاكل العسكرية والسياسية المالية الحاضرة كثيراً من التأملات؛ وأول ما يلاحظ فيها أن أساليب الحرب والكفاح المادية بين الدول قد طرأ عليها تغيير جوهري حاسم، هذا بينما نرى أساليب الكفاح السياسي تقوم في جوهرها على نفس الأسس التي قامت عليها منذ قرون، ويكفي أن نرجع إلى عشرين عاماً فقط، أعني إلى الحرب الكبرى، لنرى إلى أي مدى هائل تطورت أساليب الحرب؛ ففي أثناء الحرب الكبرى كانت الحرب الجوية لا تزال في بدايتها، وكانت المخترعات والأسلحة الجديدة المهلكة مثل الغازات السامة والدبابات لا تزال في دور التجربة، ولم يعلم يومئذ مبلغ فعلها أو أثرها في تطور أساليب الحرب. أما اليوم فقد غدت الأساطيل الجوية أروع وأفعل وسائل الحرب السريعة المهلكة، وغدت الغازات السامة سلاحاً يعتمد عليه ويحسب حسابه ويتحوط لدرئه والوقاية منه في جميع الأمم المتمدنة، وغدت الدبابات الضخمة وحدة فنية ثابتة في معظم الجيوش الكبرى؛ وهذه أمثال فقط مما ذاع وعرف من أسلحة الحرب المعاصرة، ولكن لا ريب أن هناك أسلحة ووسائل مهلكة أخرى لم تعرف ولم تذع بعد، وإن كنا نسمع عنها بعض الروايات الغريبة المدهشة، ومن المحقق أنها يوم تنشب حرب عالمية جديدة، أو حرب طاحنة بين دولتين عظيمتين، ستقع على العالم وقع الصواعق، وتحدث ثورة جديدة هائلة في أساليب الحرب والقتال.
ونرى من الجهة الأخرى منظراً غريباً من مناظر الكفاح الدولي الحديث هو العقوبات الدولية، فهناك اليوم زهاء خمسين دولة من دول العالم، وبينها عدة من الدول العظمى، تبحث في جنيف في فرض عقوبة جديدة على إيطاليا تكون حاسمة في وقف اعتدائها على الحبشة، وذلك بعد أن فرضت عليها العقوبات الاقتصادية الإجماعية وأحدثت في شؤونها الداخلية والاقتصادية أزمات ومتاعب شديدة، وهذه العقوبة الجديدة تنحصر في حظر تصدير البترول والحديد والفحم إلى إيطاليا، والمقدر إن تنفيذ هذه العقوبة يكون ضربة قاضية على المغامرة الإيطالية في الحبشة، وإنه يؤدي سريعاً إلى شل الحركات العسكرية الإيطالية، لأن إيطاليا تعتمد على الخارج في استيراد هذه المواد الحيوية اللازمة لت أسطولها وطياراتها ودباباتها، وكل حركاتها ومشاريعها العسكرية، وحرمانها من هذه المواد يقضي على كل هذه المشاريع والحركات، ويجعل من أساطيلها وطياراتها ودباباتها قطعاً من الحديد والصلب لا حياة فيها؛ ثم نرى الدول تذهب في تفكيرها إلى أبعد من ذلك، فتقدر أن إيطاليا قد استوردت من هذه المواد ما يكفيها زمناً، أو أنها ستظفر على أي حال باستيراد البترول من إحدى الدول التي لا توافق على حظره، فتفكر في وسيلة أخرى هي حظر نقل البترول إلى إيطاليا على سفن الدول المشتركة في توقيع العقوبات، وهذه الدول محدودة معروفة، وإيطاليا لا تملك من سفن نقل البترول ما يكفي لاستيراد ما تبغيه
فهذه وسائل جديدة مبتكرة في ميدان الكفاح الدولي؛ ولكنها لا تخلو من روح القديم أيضاً، بل لا تخلو من وسائله، فهي في الواقع نوع من الحصار السلمي العام، وهي تؤدي إلى نفس النتائج التي يؤدي إليها الحصار العسكري أو البحري، وكل ما هنالك أنه قد أسبغ عليها تأييد دولي عام يجعلها بعيدة عن صفة النضال الشخصي أو المباشر؛ ويقدم إلينا التاريخ الحديث مثلا من هذا الحصار العام الذي يراد به إذلال دولة أو سحقها بالوسائل الاقتصادية، وهو القرار الشهير الذي نابوليون في سنة 1806 والذي يعرف بقرار برلين نسبة إلى البلد الذي صدر فيه؛ فهذا القرار يقضي بوضع الجزائر البريطانية في حالة حصار تام، وبأن تقطع فرنسا وجميع الأمم التابعة لها جميع علائقها الاقتصادية والمالية مع إنكلترا، وأن تقفل جميع الثغور الفرنسية وثغور الأمم التابعة لها في وجه السفن البريطانية؛ وكان نابوليون يرمي بتنظيم هذا الحصار الاقتصادي المطبق إلى سحق تجارة إنكلترا التي هي سر عظمتها وغناها بعد أن عجز عن مكافحتها بالوسائل العسكرية، ولكن إنكلترا أجابت على هذا الحصار بتنظيم المقاطعة التجارية والبحرية ضد فرنسا واتخاذ الإجراءات الانتقامية المماثلة؛ وقد عانت إنكلترا مدى حين آثار هذا الحصار المرهق، ولكن فرنسا عانت أيضاً من آثاره، ولم يوفق نابوليون إلى تحقيق غايته، إذ كانت سياسته قائمة على الغايات والاعتبارات الشخصية، ولم تفز بنوع من التأييد الدولي العام؛ ومن الواضح أن العقوبات الاقتصادية التي توقعها الآن عصبة الأمم على إيطاليا تقوم على فكرة مماثلة في القصد إلى إضعاف الدول المعتدية (إيطاليا) وإخضاعها بالوسائل الاقتصادية، وهي وسائل فعالة في عصرنا، ولكن الفرق بين قرار برلين، وقرار عصبة الأمم أن قرار العصبة يفوز بما يشبه الإجماع الدولي، وبذلك يتخذ طابعاً دولياً عاماً بدلاً من أن يتخذ طابع الكفاح الشخصي بين دولتين، ويغدو أثره أشد وقعاً وفعلاً.
أما وسائل الكفاح السياسي الذي يضطرم اليوم في أوربا، والذي يراد أن يمهد به للصراع الحربي المقبل، فما زالت تقوم على نفس الأسس التي عرفتها أوربا منذ قرون. وقد مرت عقب انتهاء الحرب الكبرى فترة لاح للعالم فيها أن وسائل الكفاح الدولي القديمة قد عفت، وأن العالم سوف يستقبل عهداً جديداً من الوئام والتفاهم الدولي، وأن المنازعات الدولية يمكن أن تسوى بالوسائل السلمية مثل التحكيم أو الالتجاء لمحكمة دولية عليا؛ وكان للعالم عذره في هذا الاعتقاد وهو يرى عصبة الأمم ومثلها العليا، ومواثيق السلام وعدم الاعتداء يتوالى عقدها منذ ميثاق لوكارنو، ثم يرى ميثاقاً يعقد بتحريم الحرب ونبذها كأداة للسياسة القومية وتنضم إليه أسرة الدول الكبرى كلها؛ ولكن سرعان ما تبدد هذا الحلم، وارتفع الطلاء الخلب الذي كان يغشى هذه المظاهر والدعاوى، وبدت السياسة الدولية في ثوبها الحقيقي القديم، قائمة على نفس الأسس القديمة التي تدفع أوربا ما بين آونة وأخرى إلى معترك الحروب القومية الكبرى.
أما هذه الأسس التي يقوم عليها معترك السياسة الدولية اليوم، فهي اعتبارات السياسة والخصومات والمطامع القومية القديمة، والتوازن الأوربي القديم، الذي يقسم القارة إلى كتل سياسية وعسكرية متشادة متكافئة، لا تكاد تهم إحداها بالتفوق حتى تناهضها أخرى أقوى وأكثر تحفزاً؛ وقد كانت السياسة القومية القديمة تلعب دورها من وراء الستار دائماً حتى إبان ازدهار الدعوة إلى السلام والتفاهم الدولي، أما اليوم وقد اضمحلت هذه الدعوة وانهارت المواثيق السلمية التي عقدت باسمها وفي ظلها، فإن السياسة القومية تسيطر في ميدان النضال بصورة ظاهرة غير منكورة؛ وأوربا القديمة تتجاذبها اليوم عدة جباه سياسية وعسكرية خصيمة؛ وإذا كانت هذه الجباه قد تغيرت أوضاعها عما كانت عليه قبل الحرب الكبرى لتغير في الأوضاع السياسية والجغرافية التي ترتبت على الحرب، فإنها ما زالت تحتفظ في جوهرها بهيكلها القديم؛ فالخصومة الفرنسية الألمانية ما زالت محور التجاذب السياسي والعسكري في أوربا، وحول هذه الخصومة تجتمع القوى المختلفة، فروسيا الشيوعية لأنها تخشى ألمانيا الهتلرية تجنح اليوم إلى الجبهة الفرنسية، بعد أن كانت تجنح من قبل إلى الجبهة الألمانية؛ وفرنسا تحاول أن تستبقي إلى جانبها جميع حلفائها بالأمس؛ أعني بريطانيا العظمى وبلجيكا وإيطاليا؛ وهي تبذل في سبيل استبقاء صداقة إيطاليا جهودا واضحة، ولا ترى بأساً من أن تمالئها في مشروع اعتدائها على الحبشة لأنها تخشى إن هي سلكت سبيلاً آخر أن تلقي بإيطاليا في أحضان ألمانيا، وألمانيا رابضة متربصة تحاول أن تحدث هذه الثغرة في الجبهة الخصيمة؛ ثم إن فرنسا من جهة أخرى تبذل نفوذها في تسيير دول الاتفاق الصغير - يوجوسلافيا، ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا - نحو الغاية التي تعمل لها دائماً، وهي إحاطة ألمانيا بسياج قوي من الدول الخصيمة؛ والواقع إن ألمانيا ما زالت تشعر أنها بازاء هذه الحركة تقع في نوع من العزلة لسياسية والعسكرية يدفعها إلى البحث عن أنصار وحلفاء، وهي قد استطاعت أن تسلخ بولونيا من أحضان فرنسا، ولكن بولونيا ليست قوة كبرى يعتد بها؛ أما بريطانيا العظمى، فهي تشق سبيلها في هذا المعترك، إلى جانب فرنسا في الغالب، ولكن دون خصومة ظاهرة لألمانيا؛ وهي تخاصم اليوم إيطاليا من أجل المسألة الحبشية ومطامعها الاستعمارية في شرق أفريقيا، ولكنها تحاول أن تجتذب فرنسا إلى جانبها في هذه الخصومة، وقد استطاعت أن تحرز بعض النجاح في هذا السبيل.
والخلاصة إن المعترك الدولي في أوربا يقوم اليوم على نفس الأسس القديمة التي كان يقوم عليها قبل الحرب الكبرى: السياسة القومية، والتوازن الأوربي السياسي والعسكري؛ وإذا لم يكن هذا التوازن قد استقر الآن بصورة فعلية فإنه يسير في سبيل الاستقرار، ومتى تم هذا الاستقرار استطعنا أن نعين المعسكرات الخصيمة التي تشترك في الحرب الأوربية القادمة؛ وإذا قلنا الحرب الأوربية فإنما نعني الحرب العالمية، لأن التوازن الأوربي هو أساس التوازن العالمي؛ وليس في العالم بعد أوربا قوة يعتد بقوتها السياسية غير اليابان وأمريكا؛ فأما اليابان فإنها تتخذ لنفسها موقفا خاصا، ولا يمكن تصورها متحدة مع أي دولة أوربية في ميدان غير الشرق الأقصى، وأما أمريكا فإنه يصعب تصورها ملقية بنفسها في غمر المعركة الأوربية مرة أخرى، ومن المحقق أيضاً إن الذي يقود أوربا إلى ميادين الحرب أو السلام هي نفس الدول التي قادتها إلى الحرب الكبرى وهي ألمانيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى وإيطاليا.
وهنالك عنصر لا يمكن إغفاله في تطور هذا المعترك، هو عنصر الدبلوماسية السرية؛ وقد بلغت الدبلوماسية السرية ذروتها قبيل الحرب الكبرى وفي خلالها، وكانت مبعث طائفة من المفاجآت والتطورات الخطيرة التي غيرت مصاير الحرب، ولم ينقطع هذا العنصر السري في الدبلوماسية الأوربية عن العمل في أي وقت، ولكنه هدأ قليلاً عقب الحرب، أمام اضطرام صيحات السلام والتفاهم الدولي؛ بيد إنه يستعيد الآن كل أهميته القديمة، وإذا لم يكن من المستطاع أن نتلمس آثاره الآن في المعترك الأوربي، فإنه بلا ريب سيحدث أثره في الوقت المناسب. وعلى أي حال فإن السياسة الصريحة لم تكن يوما عماد دول عسكرية استعمارية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وروسيا؛ وقد رأينا كيف لعبت المساعي السرية دورها في سلخ إيطاليا عن التحالف الثلاثي أثناء الحرب الكبرى فمثل هذه المساعي يبذل اليوم من جميع النواحي، وإيطاليا ما زالت تقف بين الخصمين القديمين - ألمانيا وفرنسا - في مفترق الطريق، ولا ريب أن المستقبل فياض بمختلف التطورات والمفاجآت