مجلة الرسالة/العدد 136/في وقع الموت
→ على ذكر حوادث دمشق | مجلة الرسالة - العدد 136 في وقع الموت [[مؤلف:|]] |
الوزير أبن كلّس ← |
بتاريخ: 10 - 02 - 1936 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ضمني مجلس قال أحد من فيه - وقد ذكر بعضنا وفاة الملك جورج الخامس، وقول الأطباء إنهم لم يشهدوا أعراض مرض معين، وأن قواه كانت تهبط شيئاً فشياً -: (إن من الصعب على الإنسان أن يواجه الموت وهو محتفظ بعقله)، فقال آخر إن الذي يخفف عنه في هذه الساعة أنه يستسلم للموت ولقضاء الله فيه، فسألته: (هل معنى هذا أنه يقبل على الموت راضياً ويتلقاه مغتبطا؟
فكان جوابه: (نعم. . . . يستسلم فيفقد الموت لذعه ورهبته). . . ولست طبيباً ولا شبهه، ولكني لا أرى هذا ولا أستطيع أن أقتنع به؛ وعندي أن الإنسان لا يزال إلى آخر عمره يثور على الموت وبجاهد أن يدفعه عنه ويقي نفسه منه؛ ولكن جسمه يفقد الحيوية فتذهب معها الإرادة - لا إرادة الحياة، فإنها لا تفارقه أبداً، بل إرادة المقاومة والكفاح بعد استنزاف القوة، ويظل المرء كارهاً للموت مشتهياً للحياة متعلقاً بها، ولكنه يعرف من نفسه أنه لم يعد قادرا على المجاهدة، ويخطئه العون اللازم من الجسم فيكون كالذي فقد في المعركة سلاحه، أو فرغت ذخيرته والأعداء مطبقون عليه، فيوطن نفسه على الموت يأساً من النجاة
والمرء إنما يقاوم الموت بجسمه، وقد يستطيع بقوة الإرادة أن يطيل أمد المقاومة؛ ولكن استمرار المقاومة معناه أن جسمه لا يزال محتفظاً ببقية من القوة مذخورة - بالغة ما بلغت من الضآلة - وبهذه البقية يستطيع أن يجعل لإرادته أثراً ولمقاومته لعدوان الموت مظهراً، فإذا زالت هذه البقية ونضب المعين، لم يبق للإرادة عمل، لأن الأداة التي تعمل بها الإرادة تكون قد فنيت وذهبت
ولا فرق هناك بين من يكافح الموت - في الأحوال العادية الطبيعية - وبين من يقاتل مع جيش. فكما أن الجندي يثبت ويصمد ويتسنى له أن يكر ويفر، ويهاجم ويدافع ما بقي معه سلاحه وعدته، حتى إذا فقد ذلك لم يبق له عمل، كذلك يكون المرء حيال الموت الذي يدلف إليه ويدنو منه على الأيام ليثبت عليه آخر الأمر. وكل ما هنالك من الفرق أن الموت كامن فينا، وأن أداته الضعف الذي يصيبنا، والهرم الذي يدركنا، والعجز الذي يستولي علينا في النهاية، فهو ليس عدواً يهجم علينا، بل حالة نصير إليها حينما تنفد الحيوية لسبب من الأسباب
وقد راقبت الموت أكثر من مرة، وشهدت كثيرين وهم في سياقه، ثم ماتوا بين يدي، وكان الموت في هذه الحالات كلها على أثر نضوب الحيوية ونفاد القدرة على المقاومة. وكانت إحدى الميتات بسبب النزف، فظل العقل حاضراً لا يغيب ولا تغيم سماؤه، ولا يتعكر صفوه؛ وكان الإحساس بدنو الأجل قوياً، ولاشك أن الرغبة في الحياة كانت عظيمة، والجزع من الفناء كان شديداً، ولكن الجسم لم تكن له قوة تستخدمها الإرادة، فخرج النفس الأخير في سلام ومن غير أن يبدو للناظر أثر للصراع. وبأي شيء يكون الصراع؟؟
وميتة أخرى شهدتها، كان الصراع فيها كأعنف ما يمكن أن يكون، لأن الجسم بوغت بعدوان المرض المنذر، فتنبه فيه كل كامن من قوته، وهبت إرادة الحياة تدفع هذه الغائلة، وكان يخيل إلى وأنا أنظر، كأن إنساناً ألقي به في الماء وهو لا يعرف من السباحة إلا لفظها، وكما يفعل المرء حين يلقي نفسه في الماء ويخشى عليها الغرق، فتراه يضرب بيديه ورجليه بغير حساب أو تفكير ويهز رأسه هزاً عنيفاً، وينفخ ويرغى، كذلك كنت أرى أمي لما أصابتها الذبحة؛ وسكنت الآلام بفضل العلاج يومين، وبدأنا نستبشر، ولكن النكسة جاءت، أو لا أدري ماذا حدث، فجعلت نوبات من الاختناق تعتريها، وبينها في أول الأمر فترات طويلة جعلت تقصر شيئاً فشيئاً حتى صارت دقائق. وكانت أول الأمر تقاوم الاختناق بشدة، وتعالج التنفس بجهد عنيف، يظهر أثره في كل عضلة من عضلات الوجه والعنق، وفي اضطراب الصدر وخفق القلب، وفي دفع اليدين والرجلين؛ وكان همي أن أقوي إرادة الحياة في نفسها وأن أمدها بما يكفي من الأمل والثقة والشجاعة، ولكن كرات الاختناق أوهت قوتها واستنفدت مجهودها، ولم يفارقها الحرص على الحياة، والنفور من الموت، وإنما خذلتها قواها؛ ولم يذهب عقلها ولا ضعف أو كل، ولكن ما خير العقل وما غناؤه وحده؟؟ وبأي شيء يشتد أزره؟ فلما جاءت آخر النوبات كان كل ما وسع الجسم أن يكافح به هذه الغارة أن الشفة السفلى اختلجت مرة أو مرتين، فهمد الجسم وكف القلب عن النبضان وانقطعت الأنفاس
وقد سقت هذه الأمثلة لأقول إن الإنسان لا يستسلم ولا يزهد في الحياة، ولا تفتر رغبته فيها، ولا يضعف كرهه للموت واستهواله للفناء، ولكنه لا يجد مؤازراً من جسمه فييأس؛ وليس هذا استسلاما وإنما هو إدراك لحقيقة بغيضة لا يبقى مفر من مواجهتها وتوطين النفس عليها، والإذعان لها كرها. وخليق بهذا أن يكون مؤلماً، ولكن فترته أقصر من أن يكون للألم فيها قيمة أو حساب، وعلى أن عجز الجسم عن المقاومة، يذهب في رأيي بالألم، لأن الألم فيها أعرف نوع من الاستجابة لوقع الشيء أو الحالة، ومتى فقد الجسم القدرة على الاستجابة للمؤثرات فانه يفقد أيضاً قدرته على الإحساس بالألم أو الحزن أو الجزع أو الفزع، لأن شعوره بذلك يقتضي أن تكون هناك بقية من الحيوية، ولو كانت هناك بقية، لاستمرت المقاومة ولظلت رحى الكفاح بين الحياة والموت دائرة
فلست أوافق الذين يستهولون أن يكون المرء مدركا لمجيء الأجل، لأن إدراك المرء لذلك، معناه أنه يدرك أن جهده نفد، وأن مَعين حيويته نضب وجف، وهذا الإدراك وحده وبمجرده، رياضة سريعة للنفس على السكون إلى المصير المحتوم، لأنه إشاعة للموت في الجسم قبل تجربة وقعه، فكأن الإنسان يوحي إلى نفسه الموت - بفضل هذا الإدراك وبقوته - قبل أن ينزل به، فإذا زاره ألفاه مستعدا له، مهيأ لتلقيه؛ والإدراك تهيّؤُ، والتهيؤ ينفي الألم ويستل اللذع.
ومن هنا كانت الشيخوخة - أي الضعف - والمرض الطويل أو المضني، بمثابة التدريب على الموت. وكل امرئ يقرن الشيخوخة أو المرض بالموت، ولا يستغربه حين يحل بالهرم أو الذي خامره الداء، ولكن موت الشاب يصدم النفس ويرجها، لأن الشباب - وهو أوان الحيوية الزاخرة - لا يقترن في الأذهان بفكرة الموت. أما الشيخ الهِمُّ فأن كل من يراه يجري بخاطره أنه هامةُ يوم قريب، وأخلق أن يكون الموت أقرب إلى خاطره وأجرى بباله، وأشد مثولاً وأكثر حضوراً، لأنه أحسَ بنفسه وأدق إدراكا لما خسر من قوته، وعلما بما صار إليه من الوهن والفتور بالقياس إلى ما كان عليه من المنة والنشاط والخفة والمرونة. ويَّألف المرء الضعف واليبس فيألف المصير الذي يرى نفسه ينحدر إليه بسرعة أو على مهل، فيكون هذا كالرياضة له على السكون إلى المآل المحتوم، وهذا هو معنى قولي إن الشيخوخة أو المرض تدريب على الموت.
وهذه الرياضة النفسية - أو التدريب الذاتي - على الموت أفعل وأوقع من كل ما يشاهده الإنسان من عدوان الفناء على الحياة في مظاهرها المختلفة. وأحسب أن المرء حين يرى غيره يموت، أو يسمع بذلك، يستثني نفسه من هذا المصير وإن كان على يقين جازم من أنه حتم لا رادَّ له ولا حيلة فيه؛ ولعله في ضمير الفؤاد يهنئ نفسه بالنجاة ويشكر الله على أن الموت لم يخطفه هو، وعسى أن يكون الأمل المستمد من غريزة المحافظة على الذات هو الذي يغريه بالتعليق بوهم الاستثناء المستحيل، وهو على كل حال يخفف وقع الخبر، ويجعله محتملا، ويذهب ببواعث الجزع على النفس قياساً على المشهود.
ولكن قدرة المرء على مغالطة نفسه تضعف أمام دبيب الموت إليه على الأيام. ذلك شيء يحسه في نفسه فلا سبيل إلى تجاهله والإغضاء عنه. وكيف يسعه أن يتجاهل اليبس الذي في أعضائه، والتصلب الذي في شرايينه، والفتور الذي يجده، والضعف الذي يعتريه حين يهم بأيسر الأشياء، والعجز عن احتمال ما كان يمر به فلا يعيره لفتة، إلى آخر ذلك؟؟ وكل يوم يمضي به يزيده وهناّ على وهن، ويدنيه من القرار الذي يُلفي نفسه هابطاّ اليه، فلا يبقى سبيل إلى مغالطة النفس. وكل ما يقدر عليه أمله هو أن يرجو أن يُنسئ الله في أجله، على الرغم مما يكابد من ذلة الشيخوخة ومهانة الضعف والحاجة المتفاقمة إلى الإسناد. فهو مضطر أن يوطن نفسه على الموت، وأن يقصر الأمل على طول المهلة، وليس أجدى عليه ولا أفعل في تخفيف وطأة الموت من هذه الرياضة البطيئة. ومن هنا كان موت الفجاءة مزعجاً لنفوس الأحياء، لأن صدمته لها تجيء على غير انتظار. والله أعلم، فما جربَ الموت أحد وعاد إلينا ليقول لنا كيف كان وقعه - هذا طريق لا يحمل المسافر فيه (تذكرة) ذهاب وإياب، كما يقول ويندل هولمز.
إبراهيم عبد القادر المازني