الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 136/رثاء

مجلة الرسالة/العدد 136/رثاء

بتاريخ: 10 - 02 - 1936


محمد جلبي الشهبندر أحد سراة العراق

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

- 1 -

تحطْمت الآمال من بعد محمود ... فيا سلوتي شحّى ويا عبرتي جودي

قد اجتُثّ روحٌ كان قبل اجتثاثه ... يزين بأثمارٍ له ألفَ أملود

خلا القصرُ ممن كان للقصر مالئاً ... كأن لم يكن في رُدهتيه بموجود

لقد غمدوا السيفَ الصقيلَ بحفرة ... ويا ليت ذاك السيف ليس بمغمود

تجرّد من جسم تضيق حدودُه ... يجوب فضاءً واسعاً غير محدود

نعاه ليَ الناعي فكان نعيُّه ... كصاعقة أو مثل صدمة جلمود

فأدركني يومٌ من الدهر أسودٌ ... فكان لحزني شرَّ أياميَ السود

- 2 -

لقد غاب محمودٌ عن الصحب مضطراً ... ولم يبق منه للصديق سوى الذكرى

كأن لم يكن قد سُرّ أصحابهُ به ... ولا هو في يومٍ بأصحابه سُرّا

بربك لا تَلحُ الحزينَ على البكا ... فإنك لا تدري بما فيه قد أورى

تقول عيوني للسحابة أقلعي ... فأنكِ لا تبكين من كبدٍ حَرّى

على كل قبر مقلةٌ ذات عبرة ... وماذا انتفاع القبر بالمقلة العَبرى

قسمتُ بكاَء الشعر بيني وبينه ... فأعطيتُه شطراً وأبقيتُ لي شطرا

ولا تقترح قولاً على الشعر إنه ... بموقفه في يوم محنته أدرى

- 3 -

لقد ظلَّ للموت الزؤامِ يجاذب ... إلى أن علاه الموتُ والموتُ غالب

أطال الردى همساً بأُذن مريضة ... كأن له ديناً فجاء يطالب

ولو حزتُ علماً بالمقادير جئتُها ... أؤّنبُها فيما أتت وأعاتب

يقولون أمراض به أغرت الردى ... وما هي أمراضٌ ولكن نوائب فيا دمعُ أنت اليوم كالقلب نابضٌ ... ويا قلب أنت اليوم كالدمع ذائب

لقد ندبته نسوةٌ حول نعشه ... وأَشْجِ بما كانت تقول النوادب

إذا انطفأ النجمُ الذي كان ساطعاً ... فليس ببدعٍ أن تسود الغياهب

- 4 -

أمحمودُ كنتَ الراجحَ العقل والخلق ... من الباطل الخدّاع تفزع للحق

وكنتَ كنجم لا قرار لسيره ... فتطلع من أفق وتغرب في أفق

وكان لموتٍ قد أصابك سهمُه ... دوىٌّ بغرب الأرضِ أجمعَ والشرق

ولا رُزَء إلاّ كان رتقٌ لشقه ... وليس لشقٍ يفتق الموت من رتق

مضى بصديقي الحرِّ يستعجل الردى ... فليت الردى للحر قد كان يستبقي

بكتك عيون العارفيك بأدمع ... تفيض وللأرض التي ظمئت تسقي

تجنبتَ ضوضاَء السياسة آخذاً ... بأيديك أسبابَ التجارة في حذق

- 5 -

حياةٌ ومن بعد الحياة. مماتُ ... وجمعٌ على الأعقاب منه شتات

وهل تغسل القلبَ الحزين من الأسى ... إذا العين منها انصبّت العبرات

وإن أثقلت نفسَ الوفيّ فجيعةٌ ... فلا النورُ يُسليها ولا الظلمات

أقول لقومي إن يكن عندكم لمن ... تَفَجَّعَ سلوى في المصاب فهاتوا

وما أجَملَ الأيامَ إمّا لنا وفت ... ولكنما الأيامُ منتقلات

لقد حملوا نعشَ الفقيد لقبره ... فساروا وسارت خلقَه السروات

فما كنت من تلك الجماهير سامعاً ... سوى صرخات بينَها شهقات

- 6 -

على الأرض أمجادٌ كثير قصورُها ... وأكثر منها في العراء قبورها

وما من بقاع ليس يهلك أهلُها ... ولا من سماءٍ ليس تردى نسورها

وما خيرُ دنيا بالزلازل أرضُها ... تميد وبالأمواج تغلي بحورها

إن الجسمُ أودى فالبوارُ نصيبُه ... ولكنما الأرواح ماذا مصيرها إذا ما حياةُ المرء للمرء فارقت ... فهل من حياة غيرها يستعيرها

وليس لنفسٍ أن تخِيرَ حمامَها ... ولا هو إمّا زارها يستشيرها

إذا النفس دبّ الداء فيها فعالجت ... منيتَها ماذا يكون شعورها

- 7 -

هل الحزنُ إلاّ مقلةٌ تتفجّر ... وألاّ قلوبٌ نارُها تتسعّر

تبعثر شمل البيت بعد اجتماعه ... وأيّ جميع عَوضُ لا يتبعثر

وأجساد موتى في القبور تأسّرت ... وأرواح موتى للبقاء تحَّرر

على أن موتى السابقين إلى الردى ... حياةٌ لأبناءٍ لهم قد تأخّروا

ولم يك يوماً للطبيعة غايةٌ ... سوى النوع إن النوع أبقى وأثمر

لقد عرف الإنسان منها ظواهراً ... ولم يدرِ ماذا في البواطن مُضمر

إذا مات طفل البيت فالخطبُ فادح ... وإن مات ربُّ البيت فالخطب أكبر

- 8 -

لقد جاء ما قد كان يبنيه ذا حسن ... فما تمَّ حتى قام يهدم ما يبني

حزنتُ وما حزني سوى ابن رزيئةٍ ... وما دمعتي في العين إلاّ ابنة الحزن

وما أحدٌ في الناس يدري مصيرَه ... ومن كان لا يدري فيفزع للظن

لقد زيّنت بالزهر قبرَك صحبةٌ ... وعن كل هذا الزهر قبرك مستغن

يخال الفتى علماً له بحقائق ... ولم ينتبه أن الحقائق في الذهن

وليست حياة المرء بعد مشيبه ... وإن قل شكواه سوى التعب المُضني

سمعتُ أحاديثاً وإني لمبدلٌ ... لما نظرت عيني بما سمعت أذني

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي