الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 135/مكانة مصر في المغرب العربي

مجلة الرسالة/العدد 135/مكانة مصر في المغرب العربي

مجلة الرسالة - العدد 135
مكانة مصر في المغرب العربي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 03 - 02 - 1936


للأستاذ محمد السعيد الزاهري

يشاع اليوم في الجزائر أن الآنسة أم كلثوم قد أزمعت أن تقوم بسياحة في بلاد المغرب وأن حكومة مراكش قد رفضت أن تسمح لها بدخول المغرب الأقصى. قالوا ولذلك عدلت الآنسة عن زيارة المغربين الآخرين (الجزائر وتونس) وهذه هي المرة الرابعة التي نسمع فيها هذه الإشاعة تتردد في أرجاء المغرب العربي وتكون مشغلة الرأي العام فيه ويهتم لها الناس ويندفعون في شرحها والتعليق عليها بمختلف الآراء والأقوال: فهذا يقول لقد أحسنت السلطات بذلك إلى أهل مراكش ووفرت عليهم أعراضهم وأموالهم بمنع المطربة المصرية من دخول هذه البلاد، إذ لو أن هذه الآنسة زارت مراكش لملكت على أهليها قلوبهم وأهواءهم، ولذهبت بعقولهم وألبابهم، واستولت على أموالهم وعلى ما كسبت أيديهم، ولكانت عليهم في الآخرة نكبة مالية كبرى لا تقل في فداحتها وقسوتها عن هذه الضائقة العاتية التي أهلكت الزرع والضرع وأخذت بمخانق الدنيا كلها؛ ولذلك يقول لقد ضيقت السلطة بذلك على المغاربة حريتهم الشخصية ومنعتهم مما تهوى إليه أفئدتهم وحالت بينهم وبين ما يشتهون؛ وهنالك آخر يقول غير هذا

ومهما أختلف الناس في تفسير هذه الإشاعة وفي تأويلها فأنها تدل على شيء واحد وهو أن هذه الآنسة قد غزت بصوتها الملائكي الطروب قلوب هؤلاء الناس، وأن منزلتها في بلاد المغرب العربي لا تقل عنها في مصر، وأن المغاربة يتذوقون فنها وغناءها كما يتذوقهما المصريون.

قالت مجلة (السلام) الغراء التي كانت تصدر في مدينة تطوان في بعض أعدادها أن المغاربة مولعون بالموسيقى المصرية وبالتلحين المصري إلى حد الهيام، حتى أن العواتق في خدورهن ليهتفن بأم كلثوم ويترنمن بألحانها وأغانيها. ولقد رأينا بعض المراكشيين المشهورين بالتدّين والصلاح قد طرب وانشرح ونسى انه من أهل الورع والتقوى، ولم يزل به الطرب والانشراح حتى خرج عن رزانته ووقاره إلى حالة من العبث والطيش تشبه أن تكون جنوناً وذلك حين سمع في (الفونوغراف) صوتاً للأستاذ محمد عبد الوهاب. ولا تجد في المغرب الأقصى داراً فيها (فونوغراف) إلا وتجد كل أسطواناتها أوجله مصرية لأم كلثوم وعبد الوهاب وسامي الشوا ومن إلى هؤلاء. وتباع الأسطوانات المصري هنا بثمن مرتفع قد يفوق ثمنها الأصلي أضعافاً مضاعفة. ولقد مرت علينا أيام رأينا فيها أسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب تباع الواحدة منها بثلاثة جنيهات إنكليزية قبل هبوط الإسترليني.

والواقع أن الألحان والأغاني المغربية التي كانت إلى عهد قريب منتشرة شائعة في المغرب العربي قد اختفت اليوم من الميدان، وتخلت عن مكانتها من الذوق المغربي العام لألحان مصر وأغانيها، ولا نستثني هذا التراث الذي بقى بأيدينا من فن الأندلس وغنائها فقد تزحزح هو الآخر عن مكانه للغناء المصري وترك له المجال واسعاً فسيحاً.

ولما أعلنت الحكومة المصرية إنها ستفتح في القاهرة محطة للإذاعة اللاسلكية تهالك الناس في الجزائر وتونس ومراكش على أجهزة المذياع (الراديو) يشترونها ويقتنونها رجاء أن يستمتعوا بسماع ما تذيعه مصر من الأغاني والمحاضرات، ولكنهم عادوا فجعلوا يبيعون أجهزتهم ببعض قيمتها عندما تبين لهم أن المحطة المصرية لم تكن محطة عالمية يمكنهم سماعها.

كل هذا دليل على أن الذوق العام في بلاد المغرب العربي هو نفس الذوق العام في مصر ليس بينهما شديد خلاف. ولعل تونس ومراكش هما أرقى من هذه الناحية، فالحياة فيهما مترفة ناعمة تؤثر الطرب والسماع، وتميل إلى اللهو والاستمتاع، بخلاف الجزائر فأنها عريقة في البداوة مطبقة الجهل والأمية، لا تزال تغلب عليها حياة العشائر الأولى، تشعر القبيلة فيها بأنها قبيلة وكفى، وقلما تشعر بأنها شعبة من الجزائر فضلاً عن أن تشعر بأنها من الأمة المغربية أو الأمة العربية الكبرى. ولعل مدينة وهران قد ضربت الرقم القياسي في البداوة والأمية وفي البعد عن العالم العربي دون أنحاء الجزائر كلها، ومع ذلك فكل مقهى من مقاهيها، وكل بيت عربي فيها، فيه (فونوغراف) لا يخلو من الأسطوانات المصرية، وإننا لنسمع فيها الأنغام الساذجة البسيطة التي تحاكي رسيم النجائب وخبب الجياد إلى جانب الفن والإبداع في أنغام أم كلثوم وعبد الوهاب.

ولما عرض فيها للمرة الأولى الشريط المصري (أنشودة الفؤاد) أقبل عليه هذا الجمهور العربي في وهران إقبالاً منقطع النظير طيلة ثلاثة أسابيع، وبعد بضعة أشهر عرض للمرة الثانية وأستمر عرضه ثلاثة أسابيع أخرى فكان الناس إلى الحفلة الأخيرة يتدافعون إليه بحماسة وشوق لا نظير لهما حتى أن منهم من شاهده عشر مرات!

وعندما أزمعت فرقة مصرية للتمثيل الهزلي أن تقوم برحلة في بلاد المغرب قالت عنها جريدة مصرية محترمة إنها ستبوء بالفشل الذريع، وستقنع من الغنيمة بالإياب، أو أنها على الأقل ستكابد في مهمتها ألواناً من المشقة والعناء ما لم تترجم مسرحياتها من اللغة المصرية إلى اللغة المغربية. وقامت هذه الفرقة برحلتها ونجحت في مهمتها نجاحاً باهراً لم يكن يخطر لها على بال، وتذوق المغاربة رواياتها وفكاهاتها وأدركوا مغزى (النكتة) المصرية من ملهياتها من غير أن تضطر إلى ترجمة كلمة مصرية واحدة إلى اللغات المغربية؛ وبعبارة أخرى أن هذه الفرقة وجدت نفسها في بيئة عربية مغربية لا تختلف عن مصر إلا كما تختلف الهيئة المصرية نفسها باختلاف المديريات والأقاليم، ووجدت أن كل ما يقال من وجود لغة مصرية ولغات مغربية هو من الأوهام الباطلة لا أصل لها، وإنما يوجد لسان عربي واحد تتكلمه الشعوب العربية (مصر وأخواتها) بلهجات تختلف اختلافاً لا يحول دون التفاهم بين الناطقين بالضاد، ولا توجد في الدنيا لغة إلا ولها لهجات تختلف فيما بينها اختلافاً كثيراً أو قليلاً.

وكثير من الغربيين من يعتقدون أن الشعوب العربية تتكلم اليوم لغات مختلفة متباعدة فيما بينها، وبعيدة كل البعد عن العربية الفصحى التي أصبحت في نظرهم لغة مواتاً. كما أن الشعوب اللاتينية تتكلم اليوم لغات متباعدة فيما بينها جداً حتى لا يمكن للفرنسي أن يفهم الأسبانية أو الإيطالية دون أن يتعلمها، وهذه اللغات هي الآن بعيدة عن اللغة اللاتينية التي هي أصلها.

وفي هذه الأيام نشرت صحيفة فرنسية تصدر بالجزائر مقالاً عن الحج إلى بيت الله الحرام عنوانه: (اللغة الفرنسية في مؤتمر مكة) زعم فيه كاتبه أن حجاج الجزائر ومراكش وتونس وطرابلس ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق سيتفاهمون في (مؤتمر مكة) لهذا العام باللغة الفرنسية، لأن لكل فئة من هؤلاء الحجاج لغة قومية لا يفهمها الآخرون، ولأن الفرنسية منتشرة بين جميع الطبقات في هذه الأقطار. وأبى أن يرجع إلى الصواب إلا بعد أن رأى بعينيه وسمع بأذنيه بحارة مصريين يتحادثون مع بعض العملة الجزائريين والمراكشيين من غير أن يكون بينهم ترجمان!

وكان عالم فرنسي من علماء المشرقيات جاء بلاد المغرب مندوباً من وزارة المعارف الفرنسية لدرس اللهجات العامية المغربية، فلبث في هذه البلاد يبحث ويدرس ويستقرئ، ثم رفع إلى الوزارة تقريراً بالنتائج انتهى إليها في دراسته وأبحاثه، ونشر هذا التقرير وأطلعنا عليه فإذا هو مملوء بالأغاليط والأضاحيك، فقد زعم فيه أن عربياً تونسياً تزوج فتاة عربية من بجاية (الجزائر) فلم يستطع الزوجان أن يتفاهما - لتباعد لغتيهما القوميتين - إلا بالفرنسية التي لم تكن تلم بها الزوجة إلا إلماماً قليلا. والحق أن هذا التقرير هو دعوة صريحة إلى إيجاد فروق بين اللهجات المغربية والى تجسيم ما يكون منها موجوداً بالفعل.

وحدثني ذات يوم فنان فرنسي قال: (كنت أعتقد أنه لا بد أن يأتي يوم على المغاربة يصيرون فيه فرنسيساً خُلصاً من حيث تذوق الفن والشعور بالجمال، غير أني رجعت الآن عن اعتقادي هذا، فقد مضى على فرنسا في الجزائر مائة وبضع سنين لم تستطع أثناءها أن تجعل العرب الجزائريين أن يقبلون على الأفلام الفرنسية، أو يطربون لسماع عازف فرنسي مهما كان محسناً بارعاً، أو يتذوقون غناء فرنسياً مهما كان منسجماً ساحراً يستهوي القلوب ويأسر الألباب، على حين نرى المغاربة جميعاً يقبلون الإقبال الذي لا نظير له على الأفلام المصرية وتستهويهم مصر بأنغامها وأغانيها، ويعجبون الإعجاب كله بالفنانين المصريين). ثم قال (ولقد راعني إقبال هؤلاء الناس على شريط الوردة البيضاء وتهالكهم على مشاهدته، فشاهدته أنا أيضاً، ولكنني لم أجد في هذا الشريط ما يعجبني، على أن جميع من في المسرح كانوا يشاهدون عبد الوهاب وكأنما هو ملك كريم قد هبط إليهم من السماء وينصتون لصوته وكأنما هو نغم إلهي يتنزل عليهم من الملأ الأعلى)

وما من شيء له أثر في حياة المغرب العقلية أو الاجتماعية إلا وهو مصري غالباً فمثلاً كتاب (مختصر قليل) في الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك بن أنس هو كتاب مصري قد جعل أفئدة من الناس في المغرب تهوى إلى مصر، له منزلة سامية في قلوب المغاربة يخصونه بكثير من التقديس والاحترام، ومنهم من يتعبدون بتلاوته كما يتعبدون بتلاوة القرآن الكريم؛ ولم يعد خافياً أمر ذلك الفقيه المرحوم الذي كان يصلي (النافلة) بهذا الكتاب ويقوم به الليل عابداً متهجداً؛ ولا أذيع سراً حيناً أقول أن هذا (المختصر) لا يزال له إلى الآن في كلية القروبين بفاس (حزّابة) كما للقرآن (حزّابة)، وهم يتقاضون أجوراً أوفر وأسنا مما يتقضاه (حزابة) القرآن العظيم؛ ولتلاوته هذه الراتبة أوقاف كما لتلاوة القرآن أوقاف. وفي بلاد المغرب طبقة من المحافظين يقولون عن أنفسهم إنهم (خليليون)، وأهل المغرب جميعاً هم مالكية ماعدا وادي ميزاب بالجنوب الجزائري وجربة بالقطر التونسي، فأن اكثر أهلهما أباضية، ولكنهم قليلون جداً فعددهم لا يتجاوز الخمسين ألفاً، بينما تعد الجزائر وتونس ومراكش من الأنفس خمسة عشر مليوناً يجلون هذا الكتاب ويرفعونه إلى أعلى مقام، حتى النساء في خدورهن لا يفصل الخصومات التي تثور بينهن إلا الحلف بهذا الكتاب!

ولا يزال المغاربة ينظرون بعين الاعتبار إلى كل من طلب العلم بالأزهر الشريف، ولو أنه كان قليل التحصيل، ويعترفون بالفضل لكل من أقام في مصر أو رآها.

وفي بلاد المغرب طرق صوفية منتشرة بين سائر الطبقات لها أكبر الأثر في العقائد والأخلاق، وأكثر هذه الطرق مستمد من الشيخ البكري المصري، فأتباع هذه الطرق ومريدوها يحبون البكري ويرون لهم فيه (الشيخ الممد) فيرفعونه فوق كل الاعتبارات.

وما أنت بواجد ولا مغربياً واحداً إلا وهو يحفظ كثيراً أو قليلاً من شعر أبن الفارض الصوفي المصري المشهور.

وكل حركة دينية أو أدبية في مصر لها صداها القوي في هذا المغرب العربي، فالأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده المصري أنصار ومريدون. وفكرة الإصلاح الإسلامي التي كان يدعوا إليها أصبحت اليوم في الجزائر مذهباً اجتماعياً تعتنقه الكثرة الكثيفة من الناس وتقوده (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وكل أديب كبير في مصر له أنصار وأشياع في بلاد المغرب، فللأديب الإمام الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أنصار ومعجبون وهو أكثر الأدباء المصريين تلامذةً وقراءً في هذه البلاد. وللمرحوم قاسم أمين أنصار يدعون المغربيات إلى السفور وترك الحجاب، غير أن دعوتهم لم تجد ملبياً ولا مجيباً فأخفقت إخفاقاً شديداً. وللزعماء المصريين منازلهم من قلوب الناس هنا. والمطبوعات المصرية تحتل المقام الأول عندنا، سواء في ذلك الصحف والكتب والمجلات. والصحف المغربية لكثرة ما تروي عن مصر وما تنشر من أخبارها تكاد تكون طبعات مغربية لزميلاتها المصريات. على أن هذه الصحف المصرية الكبرى لا تهتم لبلاد المغرب إلا قليلاً، ولا تتكلم عنها إلا كما تتكلم عن مجهل من المجاهل التي لم تطأها قدم إنسان، فمن خلط في أسماء المدن المشهورة بالمغرب وفي أسماء الأشخاص البارزين إلى حوادث تحوكها عن المغرب وتخبط فيها خبط عشواء.

ويقول الشبان المغاربة الذين يطلبون العلم في جامعات فرنسا إنهم تعرفوا إلى الطلبة السوريين فعرفوا فيهم العروبة والاعتزاز بها ووجدوا منهم إخوانهم وذوي قرباهم، وتعرفوا إلى الطلبة المصريين فعرفوا فيهم رقة الشمائل ودماثة الأخلاق وما شئت من لطف وأدب، وأنكروا منهم هذه (الفرعونية) الجافية التي تجعلنا وإياهم كما قال شاعر العروبة الأستاذ إبراهيم طوقان:

أحب مصر ولكن مصر راغبة ... عني فتعرض من حين إلى حين

أن تأريخ هذه البلاد حافل بالشواهد والبينات على أن المغرب يرتبط بمصر منذ العصر الحجري بكثير من روابط النسب والحضارة والدين

وإن الذي هو ما بيننا ... وما بين مصر لمحض النسب

رباط العروبة يجمعنا ... ويجمعنا ديننا والحسب

ولكن هل يمكن أن يبعث من جديد ما كان بين المغرب ومصر من الروابط وصلات القربى؟

وهران (الجزائر)

محمد السعيد الزاهري