مجلة الرسالة/العدد 135/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ نسيم الفجر | مجلة الرسالة - العدد 135 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 03 - 02 - 1936 |
28 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
وهذه هي الميزات التي يراها نيتشه تميز السوبرمان من الإنسان، يرى أن فضيلة الإنسان فضيلة تحمل إلى الناس جميعهم بدون فرق ولا استثناء، بيناً يرى أن فضيلة السوبرمان لا تعني إلا فريقاً منتخباً ضئيلاً سامياً. ألا ترى أوروبا اليوم جميعها تؤمن بديمقراطية تساوي بين طبقات الناس مهما اختلفت أصولاً وفروعاً. ونيتشه لا يرى في هذه الديمقراطية شيئاً طبيعياً، وهو يؤمن (باللامادة) ويريد أن يخلق طبقة أرستقراطية تتألف من أنواع محدودة، لكل نوع تعاليمه وأعماله وواجباته المكتوبة عليه، وأسفل هذه الأنواع هو مجموع الفئات المتوسطة التي يدور بأيديها دولاب المجتمع. فالنقش والتجارة والصناعة والعلم والفن تحتاج إلى عمال يخدمون برضاهم هذه الصناعات. يطيعون مختارين ويعملون مريدين. هؤلاء هم عبيد لأنهم ينفذون إرادة من هم أسمى منهم. وحق لهم أن تكون منهم الطاعة، وأن يحتملوا من الألم كثيراً لأن الحقيقة قاسية. على أن هؤلاء يجب أن تضمن لهم أسباب حياتهم فيكونون أكثر هناء واطمئناناً وسعادة من رؤسائهم، لا شغل لهم إلا أن يواصلوا دورة الحياة. . . أما الأيمان الديني عندهم فهو نعمة لا تثمن، لأنه كأشعة الشمس فاقة وجودهم المظلم، يعلمهم القناعة والسكينة ويجعل واجباً عليهم احتمال إرادة غيرهم. وهو الذي يبث في أرواحهم هذا الوهم الجميل القائل بأن هنالك نظاماً للأشياء. وأنهم هم أنفسهم لهم مكان نافع في نظام الكائنات والأشياء. هؤلاء يقول لهم زرادشت: (لكم لكم العبودية والأيمان!). وفوق هذا الفريق المديرين وحارسي الشريعة والذائدين عن النظام والبلاد والمقاتلين وأمير البلاد. أن هؤلاء يدبرون الأمر ويسوسون الملك بسلطتهم. أن هؤلاء هم الذين تخضع لهم إرادة العبيد حين يريدون. أما الفريق الأول فهو فريق السادة والعقلاء وخالقي (القيم الاجتماعية). هؤلاء يجب أن ينفذ تأثيرهم في قلب المجتمع، هؤلاء يجب يهبطوا إلى الأرض ينزلون فيها بين الناس منزلة الآلة الذي يقدسه النصارى. هؤلاء هم السادة ولهم وحدهم صنعت فضيلة السوبرمان.
وهذه الفضيلة لا تتميز من غيرها بأنها فضيلة أرستقراطية فحسب، ولكنها تخالفها في المثل الأعلى الذي ضربته، أما الإنسان الفاضل في الشريعة المسيحية أو شريعة الزهاد فهو الذي يخضع حياته لمثل أعلى، ويضحي بميوله ورغابه في سبيل عبادة الخير والحق. أما العاقل في شريعة نيتشه فهو غير ذلك. العقال هو خالق (القيم) وليست مهنته إلا خلقها! لا شيء في الطبيعة له قيمة بنفسه، أن عالم الحقيقة هو مادة واحدة لا معنى لها ولا غاية إلا المعنى أو الغاية التي نراها نحن فيها ونعطيها إياها. الفيلسوف الحقيقي هو الرجل الذي ينطوي على شخصية قادرة على خلق الوجود، ويبعث في الناس الرغبة ويستهويهم، هو الشاعر العبقري الذي تتألف في نفسه (القيم الاجتماعية) التي يؤمن بها رجال العصر! هو مفكر في الأشياء، لكن تفكيره ليس إلا الشريعة السامية التي تهتز لها أمم! يبدع بحرية ما يشاء مستقل الفكر سائماً من الخير والشر، من الحقيقية وغير الحقيقة. هو يبدع حقيقته، ويخلق شريعته وفضيلته. إنه رجل مجرب لا يفتأ يتحرى عن صور لعوالم جديدة. تراه يضحي بحياته وبسعادته، ويفادي بحياة الآخرين الذين يجرون في مضماره وبسعادتهم دون أن يتزعزع. إنه لاعب جريء يتحدى الحظ، لا يحفل إذا كانت لعبته الحياة أو الموت.
أن العاقل عند نيتشه ليس بذي لروح الهادئ المسالم. هو من لا يعد الناس بالسلام وبالفرح الهادئ باقتطاف ثمرات عملهم. ولكنه يدفعهم إلى الحرب يلمع بين عيونهم الرجاء بالنصر والأمل بالظفر يقول زرادشت:
(إنكم ستتحرون عن أعدائكم، إنكم ستقاتلون وستحاربون من أجل فكرتكم، فإذا غلبت فكرتكم فليدفعكم إخلاصكم إلى السرور بهزيمتها. إنكم تحاربون السلم كوسيلة لحروب جديدة، على أن السلم الصغير هو خير من السلم الكبير
أنا لا أنصح لكم بالعمل، ولا انصح لكم بالسلم، ولكن أوصيكم بالظفر. ليكن عملكم حرباً وسلمكم ظفراً.
يقولون: أن السبب الشريف يقدس الحرب. وأنا أقول لكم: أن الحرب الشريفة هي التي تقدس كل سبب.
لا يجب أن يكون لكم من الأعداء إلا المبغضون لا الحقيرون، وإذ ذاك تكونون أولي زهو وكبرياء بأعدائكم، حتى ليغدو ظفرهم عليكم ظفراً لكم.)
أن القتال عند نيتشه هو خير سبب يعمل على التقدم، لأنه يرى مواضع الضعف ومواضع القوة. يرى الصحة والمرض في المادة والأخلاق. وقد يكون القتال تجربة خطرة يريده العاقل ليزيد في حيوية الحياة ويزيد آفاقها سعة. وليدرك قيمة فكرة ما وقدرتها على الإحاطة بمعاني الحياة. الحرب نعمة حسنة في ذاتها وتنبأ نيتشه بأن أوروبا ستدخل في عصر قتال تتطاحن فيه شعوبها في سبيل سيادة العالم.
وبينما كانت (القيم الاجتماعية) الأولى تضع الشفقة في رأس هذه القيم، كان زرادشت يِعلم رفاقه بأن الإرادة هي الفضيلة العليا (هذه هي الشريعة الجديدة التي أوصيكم بها، كونوا قساة أشداء) إذ يجب في الحقيقة على المبدع بأن يكون قاسياً عنيفاً إذا أراد أن يخضع الحظ، أو أراد أن يوحي بتعاليم جديدة. أن الشفقة ليست عنده بفضيلة، ولكنها خطر من أكبر الأخطار التي تلاقيه.
ألم يسمع (زرادشت) حول كهفه أصوات اليأس يرددها الرجال الذين يدعونه (تعال! تعال! قد حان الوقت) فلو أن الشفقة عليهم استهوته إليهم لكتب عليه الغلبة. إنه يحتاج إلى قوة قاسية تصرف عنه تأثير هذا الدعاء الباكي.
بينما كان زرادشت يغادر بيته لاحقاً اليائسين الذين يجأرون له، نزل مكاناً موحشاً خيل إليه إنه مدينة الموتى. هناك الصخور البارزة السوداء والشماريخ الحمراء، حيث لا تنبت عشبة ولا ينجم كوكب ولا يزقزق عصفور. هذا هو واد ينفر منه الحيوان، لا يأوي إليه إلا الأفاعي العظيمة الزرقاء، تأتيه في كهولتها لتعانق الموت فيه. في هذا المكان المروع أبصر (زرادشت) هيكل إنسان قبيح، فلم يشأ أن يتأمله، وَهَمَ بأن يركض ما استطاع فراراً من هذا المسخ. ولكن صوتاً أهاب به كأنه غرغرة محتضر أو بقية ماء في منحدر.
- زرادشت، زرادشت! نبئني بِسري! ما هو الانتقام من الشاهد؟
وفجأة استولت على زرادشت شفقة غريبة، ولكنه سرعان ما استعاد قسوته وصرامته، فأجابه
- أنا أعرفك. . . أنت قاتل الإله، دعني أسر في طريقي؛ أنت لم تحتمل من كان يراك ويطلع عليك في كل ارتعاشك وشناعتك واشمئزازك أنت يا أقبح الرجال! فأخذت ثأرك من هذا الشاهد) خرج زرادشت ظافراً من هذه التجربة التي هلك فيها الإله. أن إله المحبة قد مات وقد خنقته شفقته بإطلاعه على كل نقائص الإنسانية وشناعاتها الخفية. أن شفقته لا تعرف حداً. إنه وطأ الأماكن الأكثر عمقاً والأسحق بعداً من النفوس البشرية. ولهذا مات، لأن الإنسان لم يعد بقادر أن يحتمل شاهداً يقظ العين على خزيه وعيوبه. أحس زرادشت بموجة الحياة تغمر نفسه إزاء هذا المشهد، فغض من طرفه وَهَمَ بان يتابع سبيله، معتقداً بأن متابعته للطريق أجدى عليه من أن يهدر أيام عمره هدراً في سبيل الجلوس إلى (جسد) لا ينفع فيه دواء. وفي صنعه هذا لم ينج من الموت وحده فحسب، بل اكتسب مع نجاته حب هذا الإنسان الكريه. أما الإنسان الكريه الذي كان يبغض الإله والرحماء فانه انحنى خضوعاً إزاء صرامة زرادشت وقبل أن يكون أحد الطارقين باب مثواه
(يتبع)
خليل هنداوي