مجلة الرسالة/العدد 135/علم غير مفيد
→ على هامش حوادث دمشق | مجلة الرسالة - العدد 135 علم غير مفيد [[مؤلف:|]] |
بيوولف ← |
بتاريخ: 03 - 02 - 1936 |
للأستاذ قدري حافظ طوقان
في النشرة الأخيرة للجامعة الأمريكية في بيروت مقال افتتاحي عنوانه (علم الفلك - علم غير مفيد) وقد أوحت إلي قراءته أن أكتب هذه العجالة في الفوائد التي جناها الإنسان من علم الفلك. ويلاحظ أن المتعلمين وطلاب المدارس العالية والكليات والجامعات يختلفون في نظرهم إلى هذا الفرع من المعرفة اختلافا بيناً فمنهم من يقول بوجوب تدريسه والاعتناء به، إذ فيه فوائد ومنافع عادت على البشرية بأطيب الثمار، ولولاه لما شعر الإنسان باللذة الروحية شعوره الحالي، ولبقى نظرنا إلى الكون في نطاق محدود، وفي محيط ضيق؛ وفريق آخر يقول بعدم فائدة علم الفلك، وبأن في تدريسه إضاعة للوقت فيما ليس فيه غناء، وأن الأولى لنا أن نهتم بشيء يعود على المدنية بالمتاع والنفع. ولا يقف هذا الفريق عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الجهر بأن الاعتناء بعلم الفلك وإنفاق الأموال الطائلة على مراصده وآلاته ضرب من الهوس والسخف؛ ويتساءل هذا الفريق قائلاً: ماذا يستفيد الإنسان من معرفته أن الأرض كوكب من كواكب أخرى تدور حول الشمس، وأن لهذا الكوكب تابعاً - القمر - يدور حولها؟ وهل يزيد في سعادة البشر ورفاهيتهم إذا عرفوا أن لبعض الكواكب توابع كما للأرض؟ وهل في القول أن في السماء نجوماً لا عديد لها بعضها أكبر من الشمس وبعضها أصغر، وأن هناك أنظمة أخرى وسدماً ومجرات وعوالم، هل في كل ذلك ما يعود علينا بالتقدم؟ هذه بعض أسئلة الفريق الذي لا يؤمن بأهمية علم الفلك ومنافعه. ويسرني ألا أكون من هذا الفريق وأنني أخالفه وأن أكون من الفريق الأول القائل بسمو علم الفلك وأثره الفعال في تطور نظر الإنسان إلى الكون وما يحويه من أعاجيب
وفي رأيي أن علم الفلك من العلوم الواجب تدريس مبادئها لطلاب المدارس العالية والكليات والجامعات وجعله إجبارياً، حتى يخرج الطالب وقد جمع إلى العلوم العملية والفنون النافعة علماً ومعلومات عامة وهي أسمى أنواع المعلومات، توسع أفق التفكير وتنير العقل، وتزيد في الاعتقاد بقدرة الخالق وعظمته المبدعة. وأرجو ألا يساء فهم القصد من تدريس مبادئ علم الفلك لطلاب التعليم العالي، فقد يُظن أني أطلب تدريس الفلك على وجه مفصل حيث المعادلات العويصة والأرقام المخيفة والعمليات المرعبة. . .! أنا لا أطلب هذا، إذ لا يتيسر الوقوف على كل ذلك إلا لمن كان له ميل إلى الرياضيات ورغبة في الطبيعيات وولع في علم السموات. ولكن أقول إن علم الفلك برغم دقة بحوثه وما يحويه من عويص الموضوعات فيه كثير من البسائط سهلة التناول قريبة المأخذ تسهل الإحاطة بها وفهمها بدون تكلف أو صعوبة فنية. وهذه هي التي أدعو إلى إدخالها في مناهج التعليم العالي حتى يخرج الطالب ولديه فكرة عن هذا الفرع السامي مما يعود عليه بأجل الفوائد من الناحية الروحية والمعنوية فيرفعه إلى ما هو أسمى من عالمه وأعلى من محيطه المادي
ولعلم الفلك فوائد عدة جليلة أهمها أنه وسع نظر الإنسان وأفق تفكيره في الكون، وجعله يدرك بوضوح وجلاء أن الكون وما يحويه من أجرام تسير على أنظمة ثابتة لا تتغير وأن الظواهر الجوية والطبيعية لا تحدث عفواً وأتفاقاً، بل إنها سائرة حسب قوانين ونواميس لا فوضى فيها ولا شذوذ، عرف الإنسان بعضها ولا يزال يجاهد في معرفة البعض الآخر، وأصبح في استطاعة الفلكي أن يتنبأ عن الخسوف والكسوف وغيرها من ظواهر طبيعية قبل حدوثها ووقوعها بعشرات السنين.
لقد كان العلماء في القرون الماضية يعتقدون أن أكثر ما يجري في هذا العالم هو من قبيل المصادفة وأن ليس هناك نظام شامل أو ناموس مسيطر، ولكن بحوث علم الفلك أفسدت هذا الاعتقاد وأقمت الأدلة على بطلانه، فثبت أن كل ما يجري حولنا سائر على أنظمة خاصة وسنن ثابتة، وأن ما يسيطر على أصغر أجزاء المادة يسيطر على أكبرها؛ فالنظام الذي تسير عليه الذرة بألكتروناتها ونواياها هو النظام بعينه الذي يسير بموجبه النظام الشمسي والنظم الأخرى بكواكبها ونجومها وشهبها ونيازكها، وهذه الفائدة هي من أجل الفوائد التي جناها العالم من علم الفلك، فكانت سبباً في تقوية أيمانه بوجود قوة خارقة منظمة مبدعة عن طريق البحث والاستقصاء والتفكير العميق.
وكيف لا يكون علم الفلك علماً مفيداً وقد حذر الإنسان من الانخداع بالظواهر وعدم الاعتماد عليها في كثير من الأحيان وعلمه كيف يعمل العقل والفكر في اكتناه حقيقة هذه الظواهر والوقوف على أسباب حدوثها. ألم يعتقد الإنسان في العصور الأولى والمتوسطة بأن الأرض هي محور هذا الوجود، وأن الشمس وغيرها تدور حولها، وأن كل شيء في الكون تابع للأرض، فهي مركز دائرة هذا العالم والعنصر الأساسي فيه؟ كان هذا الاعتقاد سائداً يدين به كثير من نوابغ العلماء وفحول رجال الفكر، وبقى الأمر على هذا الحال إلى أن تقدم علم الفلك فرمى بهذه الأوهام عرض الحائط وبَيّن للناس أن الأرض ليست إلا ذرة تدور في فضاء الله الواسع، وأن الشمس وكواكبها وتوابعها ليست إلا جزءاً يسيراً جداً من هذا الكون الذي لا يعلم مداه إلا العليم القدير. لقد بين لنا أن علم الفلك أن الإنسان جرم متوسط بين الكوكب والذرة، وأنه يستطيع بفعل ذلك وبفضل ما وهبه الله من قوى روحية ومعنوية أن يدرك حقيقة الأشياء الصغيرة من جهة والكبيرة من جهة أخرى، واستطاع فوق ذلك أن يعرف الشيء الكثير عن حركات النجوم وطبائعها والعناصر التي تتكون منها، وثبت له أن النجوم ليست إلا معامل كيمياوية وبوادق هائلة ذات حرارة عظيمة جداً من الصعب تصورها؛ وقد يأتي يوم يستطيع فيه الفلكي أن يكشف أسراراً مغلقة عن كيفية تفاعلات عناصرها بعضها مع بعض، وسيجدون في هذه الاكتشافات ما يعود على البشرية بخير عميم. وما يدرينا لعلهم يستطيعون من دراسة النجوم وكشف غوامضها أن يقفوا على سر الحياة وهو ما يصبو إلى الوصول إليه كبار العلماء وعباقرة الفلاسفة ونوابغ المفكرين.
والذي لا أشك فيه أن في إدراك الإنسان لبعض هذه الحقائق وفي وقوفه على النواميس والأنظمة المسيرة لهذا الكون في صغار محتوياته وكبارها لمن العوامل الرئيسية التي جعلته يسيطر على كثير من عناصر الطبيعة وأفعالها، ومن هنا نتجت فوائد مادية عجيبة لم تكن في الحسبان ولا خطرت على قلب إنسان. وزيادة على ذلك استطاع الفلكيون أن يصلوا إلى نتائج باهرة في تاريخ الكون وعمره فثبت لهم أن الإنسان لا يزال عند مبدأ حياة جنسه، وأنه لا يزال عند فجر يقظته العقلية، وأن تاريخه كله إلا طرفة عين إذا قيس بأعمار النجوم، وأنه ليس في استطاعته أن يتفهم كل عجائب الأكوان وغرائب الوجود، ولما يمض على ظهور عقله إلا دقة واحدة من دقات ساعة الفلك، وأنه كلما تقدم في الزمن وقف على مدهشات وعجائب تحير العقل، وتخلب اللب، وتثير الدهش، وتزيد في العبر.
والآن. . . وبعد أن ظهر لك بعض الفوائد التي جنتها البشرية من هذا العلم السامي المبني على أدق القوانين الرياضية والطبيعية، وبعد أن تبين لك أثره بحوثه على عقلية الإنسان، بعد كل ذلك هل من الأنصاف أن يقال إنه علم غير مفيد؟ أو ليس الأنصاف والعدل يقضيان على الإنسان أن يعترف بسموه وسحره الحلال الأخاذ؟
أليس الوقوف على أسراره ومحاولة كشف غوامضه مما يزيد المرء اعتقادا بضآلته وشعوراً بأن الواجب عليه أن يكون كثير التواضع وفي الذروة العليا من سمو الخلق؟
ثم أليس هذا التواضع وذاك الخلق السامي من العوامل الأساسية في سعادة البشر وطمأنينتهم؟
وأخيراً أليست السعادة والطمأنينة هما الغاية التي يصبو إليها الإنسان على سطح هذه الكرة العجيبة. . . . . .؟؟
(نابلس)
قدري حافظ طوقان