الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 135/سليل القرد

مجلة الرسالة/العدد 135/سليل القرد

بتاريخ: 03 - 02 - 1936


للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

عاش في الغاب القرد دهراً طويلاً ... قبل أن يلقى للرقيّ سبيلا

وُلد القردُ قبل مليون عام ... بشراً فارتقى قليلاً قليلا

إنما هذه الطبيعة في تَجْ ... ديدها للحياة ليست عجولا

أيّ شيٍء ألمّ بالقرد حتى ... هجر الغابَ نجله والقبيلة

إنه لولا العقل كان ضعيفاً ... وعليه الحياةُ عبئاً ثقيلا

واقتنى فطنةً وكان غبيّا ... وابتنى عزّةً وكان ذليلا

وعلى رجليه مشى بعد أن سا ... ر على أربعٍ زماناً طويلا

تخذ الصخرَ بعد نحتٍ سلاحاً ... يتّقي الوحش ضارياً أن يغولا

حادثٌ لم ير الزمانُ على الأر ... ض له في كل الدهور مثيلا

ليس إنسانُ اليوم في كل أرض ... غيرَ قرد في وسعه أن يقولا

منح الدهرُ الأرضَ خيرَ وليٍّ ... وبه كان في القديم بخيلا

إنه في لقائه للضواري ... لم يكن خَوًّاراً ولا إجْفيلا

إن عقل الإنسان خيرُ سلاحٍ ... ولقد تفْضل العقولُ العقولا

ياله من تطوّرٍ حَوَّلَ القر ... دَ لإنسانٍ يُحسنُ التخييلا

سنةُ الله في النشوء على الأر ... ض فما إن ترى لها تبديلا

ليس من قدره يحطّ فيَخزَى ... إنه كان للقرود سليلا

ولقد فارق القبيلةَ إلاّ ... أنه ظلّ حبلُهُ موصولا

قبلَ إخلادِه لعائلة لم ... يك إلاّ عن نفسه مسؤولا

ولدته عروسة الغاب من قر ... دٍ جميل فكان قرداً جميلا

عاش أبناؤه دهوراً وما إن ... عرفوا تحريماً ولا تحليلا

بعد فجر الإنسان كان غدُوٌّ ... وأرى أن للغدوّ أصيلا

إن للشمس بعد كل شروق ... يملأ الأرضَ بالضياء أفولا

دُوَلٌ فوق الأرض ذات احتشام ... غير أني في خشية أن تدو إنني أخشى للنشوء انقلابا ... فيعود الإنسان قرداً كسولا

وإذا ما خلا من الناس وجهُ ال ... أرض كان الخلوُّ خطباً جليلا

وإذا ما بالعكس عاشوا وجدّوا ... فسيمحون الموتَ حتى يزولا

وليأتي باسم السبرمان نسلٌ ... هو أرقى منهم وأهدى سبيلا

يتقصى كنه الطبيعة حتى ... ليس يبقى شيءٌ له مجهولا

إنما في حياته الصدقُ دينٌ ... لا خداعاً يأتي ولا تضليلا

وترى فوق المنكبين له رأ ... ساً كبيراً وساعداً مفتولا

وعلى رأسه الكبير ترى شع ... راً أثيثاً تخاله إكليلا

وإذا ما أبصرت عند اللقاء ال ... عينَ منه حسبتها قنديلا

وإذا ما تكاثروا حكموا الأر ... ض بعدل جبالَها والسهولا

أخضعوا أصناف الأشعة حتى ... جعلوا منها للسماء رسولا

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي