مجلة الرسالة/العدد 135/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 135 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 03 - 02 - 1936 |
كتاب اللآلئ
شرح امالي القالي
للأستاذ أحمد أمين
أخرجت المطابع الشرقية، آلاف الكتب العربية، ولكن - مع الأسف - لم يكن الإخراج في أكثر الأحيان على نمط علمي ولا قريب منه؛ فكثير من الناشرين تجار لا علماء، يهمهم الربح أكثر مما تهمهم الدقة والضبط، فهم يعهدون في تصحيح كتبهم إلى من ليسوا محل ثقة، ولا أمانة، فلا يكلفون بنفسهم عناء جمع النسخ من الكتاب ليستعينوا بها، بل يعتمدون على نسخة واحدة وقد يكون غيرها خيراً منها، ثم لا يرعون الأمانة فيما بين أيديهم. فقد لا يفهمون جملة فيغيرونها أو يحذفونها، وقد لا يستطيعون قراءة كلمة فيضعون كلمة أخرى من عندهم محلها، من غير إشارة ولا تنبيه، فخرج كثير من الكتب وعدمها خير من وجودها، والنار أولى بها من المكتبات. وأمامي الآن وأنا أكتب هذه السطور كتاب الحيوان للجاحظ فلا أستطيع أن أقرأ صفحة منه من غير أن أعثر فيها على عدة عثرات، من نقص، إلى تصحيف، إلى زيادة حرف، إلى لحن، إلى ما شئت من كل ضروب الخطأ - مع أن في مكاتب العالم نسخاً يمكن بموازنتها إخراج نسخة أقرب إلى الضبط أدنى إلى الكمال. ومثل كتاب الحيوان غيره من الكتب الأخرى يطول القول بتعدادها، فنحن إذا عددنا الكتب الصحيحة أو القريبة من الصحة سهل علينا عدها، وإذا عددنا السيئة المغلوطة أعيانا العد، وقد أعرنا بعض العناية لكتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكتب اللغة كالقاموس واللسان. فأما غير هذين النوعين فقد كان مجال الخطأ فيه فسيحاً وفي ميدانه متسع للجميع.
وقد سبقنا المستشرقون في النشر وطرقه بمراحل ووضعوا له قواعد وأصولاً؛ ولست أنسى المحاضرات القيمة التي ألقاها في سنة المرحوم (برجستراسر) في كلية الآداب بالجامعة المصرية في كيفية معارضة النسخ القديمة بعضها ببعض وكيفية النشر وما يجوز للناشر وما لا يجوز. . . الخ
وكان كثير من الكتب التي أخرجها المستشرقون مثالاً صالحاً، لأنهم يعدون نشر الكتاب من الناحية العلمية لا يقل قيمة عن التأليف، فالعالم كما يعد من مفاخره أنه ألف كتاباً، يعد من مفاخره كذلك انه نشر كتاباً؛ وكما لا يضن بجهده ووقته فيما ألف، لا يضن بهما فيما ينشر. ومن الأوليات عندهم أن يجمعوا كل النسخ من الكتاب الذي يريدون نشره من مكاتب العالم ما استطاعوا، ويصرفوا الزمن الطويل في مقابلة بعضها ببعض والتعليق عليها وضبط أعلامها وغريها، ولا يألوا جهداً في إيضاح الغامض وتبيين الشكل، ووضع الفهارس للأعلام والبلدان وما إلى ذلك. فلا عجب أن يصرف الأستاذ (ريت) عشر سنوات في تصحيح كتاب الكامل للمبرد ونشره لأول مرة؛ وفضله وجده ظاهران في الطبعات المصرية التي نشرت بعد، حتى سهل على العالم أن يدفع الثمن الغالي لكتاب طبع طبعة أوربية ولا يدفع الثمن البخس في طبعة له مصرية. أن شئت فوازن بين كتاب الشعر والشعراء لأبن قتيبة المطبوع في أوربا والمطبوع في مصر، فهو في مصر ناقص أكثر من نصفه، ومحرف تحريفاً شنيعاً، وهو في أوربا كامل مضبوط صحيح بقدر الإمكان.
ومما نغتبط أن نرى من أهل اللغة العربية أنفسهم من حذا حذو المستشرقين في نشر الكتب، بل فاق بعضهم أحياناً، فبذل الجهد في التصحيح والتعليق ومعارضة النسخ وعمل الفهارس، وهذه طليعة حسنة نرجو أن تستمر وترقى. فرأينا مثلاً من ذلك فيما تنشره دار الكتب من كتاب الأغاني ونهاية الأرب وغيرهما، وفيما تنشر لجنة التأليف من كتاب السلوك للمقريزي.
ولعل من أجل الأعمال في هذا الباب ما فعله صديقنا الأستاذ عبد العزيز الميمني في نشر كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي للوزير أبي عبيد البكري، فقد اختار كتاباً للنشر فأحسن الاختيار، لأن كتاب الأمالي عدّ - من قديم - أصلاً من أصول الأدب التي اعتمد عليها الأدباء في العصور المختلفة إلى الآن، وقد كان النواة الأدبية الأولى التي بذرها أبو علي في بلاد الأندلس من علوم المشرق فنمت وأثمرت ونضجت وآتت أكلها كل حين بإذن ربها وقد كانت أماليه المدرسية التي تخرج عليها مشهورو الأداء في الأندلس ولقيت منهم من العناية ما هي جديرة بها. وكان للأمالي طابع خاص غير الطابع الذي غلب على أمثالها من كتب الأدب كالبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد؛ فكتاب البيان والتبيين طابعه مختار من الأدب صبغ بصبغة الجاحظ من ميل للاستطراد الكثير وتحدث في الشؤون الاجتماعية، واقتباس من الثقافات الأجنبية، كالثقافة الفارسية والهندية واليونانية، وميل إلى الفكاهة والأحماض؛ وكتاب الكامل غلبت عليه طبيعة المبرد من ميل إلى النحو والصرف، لأن المبرد كان أديباً نحوياً فأحسن ما يعجبه من الأدب ما استطاع أن يخرج منه إلى مسألة نحوية أو صرفية ثم يطيل النفس في ذلك حتى كان الكتاب كتاب نحو؛ وهو لا يستطرد في الشؤون الاجتماعية كما يفعل الجاحظ، ولكنه يعنى بالثقافة العربية مصبوغة بالصبغة النحوية؛ فمظهر الجاحظ مظهر المتكلمين من سعة الإطلاع وتفتيق الموضوع، ومظهر المبرد مظهر النحويين الأدباء من تشقيق اللفظ وتخريجه وإعرابه واستعراض معاني الكلمات في أوضاعه المختلفة.
أما القالي فقد غلب عليه الأدب واللغة اكثر من غلبة النحو والحديث؛ وأكثر ما ألف في اللغة والأدب، فقد ألف البارع في اللغة، وشرح المعلقات، وكتب في الإبل ونتاجها، والخيل وشياتها الخ. فثقافته ثقافة عربية لغوية؛ ثم هو ليس عربياً كالجاحظ والمبرد بل هو مولى للأمويين: كان جده سلمان مولى لعبد الملك بن مروان، ولعل هذا ما حدا به إلى أن يرحل من الشرق إلى دولة مواليه الأمويين في الأندلس؛ وهذا يميزه عن الجاحظ والمبرد بأن علمه كان علم حفظ وجمع ورواية لا تعتمد على السليقة كما يعتمدان. فهو إذا أراد أن يخطب أرتج عليه، ولكنه في درسه واسع العلم غزير الرواية وكان كتابه الأمالي مظهراً لذلك، ينقل القطعة المختارة من العرب في شعرهم ونثرهم وحكمهم وخطبهم ووصاياهم - واكثر ما ينقل عن أستاذه أبي بكر بن دريد - ثم يتبع نقله بتفسيره بما ورد في القطعة الأدبية من ألفاظ لغوية، ويشقق الكلمة اللغوية ويبين معانيها، وكثيراً ما يستشهد على معنى الكلمة ببيت من شعر قديم أو مثل سائر أو نحو ذلك. وكتابه يمتاز بأنه يروي كثيراً من القصص العربية الأدبية، وهي نزعة أتت له من أبن دريد، فقد كانت على ما يظهر محباً لهذا النوع من القصص اللطيف. فأكثر ما يرويه القالي في أماليه من هذا القبيل: فأعرابيات يصفن آباءهن، ومحاورة للفرزدق مع بعض الأعراب، ووصف أعرابي للدنيا وقد سأل عنها، ووصايا رجل لبنيه وامرأة لبناتها الخ؛ فمختاراته ليست جافة جفاف (الكامل)، ولا أدباً بحتاً كأدب (الكامل)، إنما هو أدب فرش له فرش جميل وعد له إعداد أنيق. لم يجرد فيه الظروف من ظرفه، ولم تسلب فيه الحسناء حليها؛ وقل أن يتعرض فيه للنحو والصرف الثقيلين كما يفعل المبرد ولا للاستطراد الخفيف الروح كما يفعل الجاحظ. إنما خفة روح الأمالي من نمط آخر غير نمط البيان والتبيين، نمط فيه التاريخ والقصص والأساطير أحياناً ممزوجة بالأدب، ثم تفسير لما ورد فيها من غريب اللغة.
ولكن أخذ عليه بعض أشياء في تأليفه، فجاء أحد موطنيه وهو أبو عبيد البكري الأندلسي أمير لبلة وصاحب جزيرة شلطيش، فأراد أن يخدم الأمالي بتكميل نقصها، وتحلية عاطلها، فألف في ذلك (كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي) وأجمل غرضه فيما قدم بين يدي كتابه فقال: (هذا كتاب شرحت فيه من النوادر التي أملأها أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي ما أغفل، وبينت من معني منظومها ومنثورها ما أشكل، ووصلت من شواهدها وسائر أشعارها ما قطع، ونسبت من ذلك إلى قائلي ما أهمل. . . وذكرت اختلاف الروايات فيما نقله ذكر مرجح ناقد، ونبهت على ما وهم فيه تنبيه منصف لا متعسف ولا معاند، محتج على جميع ذلك بالدليل والشاهد والمستعان الله).
ثم جاء الأستاذ عبد العزيز الميمني الهندي أستاذ اللغة العربية بجامعة عليكره فقام في هذا الكتاب مقام يستحق الإعجاب حقاً، ويستحق التقدير حقاً، وقد دلنا منه على علم غزير وإطلاع واسع وأن لم يكن ذلك خافياً علينا من قبل.
فقد أخرج كتاب (اللآلئ في شرح أمالي القالي) إخراجاً علمياً على النمط الذي ننشده، فعارض بين نسخة المختلفة من مكية وألمانية؛ وبذل أقصى الجهد في تصحيحها، ولاقى عرق القربة في ضبط أعلامها وبلدانها وأشعارها وغريبها، ووقف في كثير من المواضع موقف الحكم بين أبي على وأبي عبيد، ينتصر لهذا حيناً وذاك حيناً بالدليل والبرهان؛ ورأى أن أبا عبيد البكري أقتصر في شرحه ونقده على كتاب الأمالي دون الذيل فوقف الميمني موقف البكري في ذلك، وشرح الذيل ونقده - وراجع في كل ذلك مئات من أمهات الكتب. وسيعجب القارئ كيف وقف على الأبيات المختلفة المنتثرة في هذه الكتب العديدة وعرف مواضعها، ووفق إلى استخدامها، ثم ختم ذلك بتصحيح أغلاط وضبط روايات، وتقييد زيادات، لكتاب الأمالي وذيله المطبوع في مطبعة دار الكتب، فأوفى في ذلك كله على الغاية.
ومنطقه في أحكامه على القالي والبكري منطق صحيح غالباً، وأن أخذ عليه شيء فاستعماله أحياناً عبارات قاسية في النقد مثل (أغلاط مستنكرة) و (متناهية في الاستبشاع) ونحو ذلك مما كنا نود أن يرفق فيه قلمه.
وعلى كل حال فقد أسدى (الميمني) إلى اللغة العربية خدمة لا تنكر، وقدم مثلاً للنشر يجب أن يحتذى.
وكان من فضل كتابه أنه (عصبة أمم) في كتاب، فأبو علي القالي شرقي استوطن قرطبة، والبكري أندلسي الأصل والنشأة، و (الميمني) هندي، ولجنة التأليف ناشرة الكتاب مصرية. فأنعم بهذه الرابطة بين القديم والحديث، وبين المحدثين في أوطانهم المتنائية وأرواحهم المتقاربة!
أحمد أمين