الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 134/ملك وشاعر

مجلة الرسالة/العدد 134/ملك وشاعر

مجلة الرسالة - العدد 134
ملك وشاعر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 01 - 1936


حل أصدق المواعيد في يومين متعاقبين بالملك جورج الخامس، وبالشاعر رديارد كبلنج، فأرفضّ لخطبهما الصبر الإنجليزي الذي يتماسك بطبعه على مض النوازل، وتجاوبت بأصداء الأسى الوقور أقطار المُلك البريطاني الشامل، وشعر القلب الإمبراطوري برجفة صماء لموت الملك، وأحس اللسان الاستعماري بعقدة بكماء لموت الشاعر؛ ذلك أن صاحب الجلالة كان يمثل شعبه في نبله وديمقراطيته، وصاحب العبقرية كان يمثله في طموحه ووطنيته؛ فأولهما كان رمز السمو الخلقي في طبع السياسة، وثانيهما كان لحن الغرور القومي في معنى الأدب!

كان الملك جورج معنى جديداً من معاني الملكية الجديدة؛ وفق بين غطرفة الملك وتواضع الديمقراطية، وألف بين قيود الحكم ونوازع الحرية، وصالح بين حفاظ التقاليد وطبيعة التطور، ولاءم بين إرادة العاهل وسلطة الدستور، وواءم بين سياسة الدولة ورغبة الأمة، واستبدل بالسلطة الزمنية التي أماتها فيه الزمان، وورثها عنه البرلمان، سلطة روحية أحلته من شعبه محل القداسة، ورفعته في أفقه مكان العلم، وجعلته في حكمه سلام الحزبية إذا احتدمت، وقرار السياسة إذا اضطربت، وصلة الإمبراطورية إذا تقاطعت، ومواساة المرضى من برح الألم، وتعزية البؤس من مس الحاجة؛ ثم تكرم عن أثرة الملوك وتميز السادة، فكان في الحرب يأكل ما يأكل الناس، وفي الأزمة ينفق ما ينفق الأوساط، وفي المحنة يكابد ما يكابد الشعب، وفي الرخاء يكاد الإحسان العام لا يترك في يديه من مخصصاته النصف مليون إلا قرابة الألفين

كانت ملكية الملك جورج كما رأيت لفظاً معناه الحب والخير والواجب؛ ومن هنا وجدت الأحزاب على اختلافها مضامينها فيه؛ فهي تثور فيما بينها وتسكن إليه، وتختلف في رأيها وتتفق عليه، وتفترق في طرقها وتلتقي عنده، حتى قال زعيم من زعماء الأحرار هو مستر اسكويث: (إن العرش لَتَهَاوى حولنا، لأن بعضها قائم على أساس من الظلم، وبعضها مرفوع على غثاء من التقاليد، ولكن عرش هذه البلاد محمول على مشيئة الشعب البريطاني، فهو مستقر لا يتزعزع، راسخ لا يميد)، وحتى قال زعيم من زعماء العمال هو مستر استافورد: (إن الملكية الدستورية ستظل طويلاً في هذه الأمة خير أداة لاختيار رأس الدولة) من أجل ذلك الخلق الأقوم كان حزن الإنكليز على مليكهم خالصاً من الرياء الرسمي، صادراً عن الشعور الصادق بالحب لرجل غلّب الأبوة على المُلك، واستغنى بالطيبة عن البراعة، وسد بكمال الخلق نقص القدرة

وكان الشاعر كبلنج مفتوناً بعظمة الإمبراطورية؛ صاغ من نسبها النضار شعره، وألف من لجبها المتناسق أغاريده؛ ثم شدا بالمجد الطوّاف على أثباج الماء، وهتف بالنصر الرفاف على وجوه الأرض، وجعل من شعره الجواب نشيداً قومياً تردده الآفاق البريطانية كما تردد نشيد الملك!

ولد كبلنج في بلاد قال فيها: (إنها أعجب بلاد خضعت للمخلوق وفتحت للخالق): ولد في الهند ببمباي كما يولد الهنود، ولكنه وعى فوجد نفسه سيداً، ووجد الهندي الذي ولد معه عبداً، يعيش على كده وهو ناعم بين وِسكبِه وحسانه، ويرقى على ظهره إذا همّ بركوب حصانه! الخلقة هي الخلقة، والبيئة هي البيئة، والطبقة هي الطبقة، ولكن كبلنج رأى بشرته ودمه من لون العلم الخفاق، ورأى بشرة الهندي ودمه من لون الأرض المستغلة، فأدرك علة الامتياز وسر التفوق: عرف أن البريطاني بحكم الجنس قد يدعى ذكياً وهو فدْم، وكيّساً وهو أخرق، وكافياً وهو عاجز، وسابقاً وهو متخلف، فاستهام بهذه القوة التي تشع مع الشمس في كل أفق، وتنتشر مع الحياة في كل قطر، وتنبسط على حواشي البر والبحر أمناً وحماية، فحبس على إعلان مفاخرها لسانه، ووقف على تسويغ عدوانها عقله؛ فموه حجج الاستعمار بالشعر، وألهب سعار العصبية بالحماسة، وشوه جمال الوطنية بالأثرة، وجعل الأدب وهو شعاع الروح دليلاً لبغي القومي ولؤمه، ومهد لأساطيل الطغيان، استبعاد الإنسان للإنسان، بحجة (أن الشرق شرق والغرب غرب فلا يلتقيان) إلا على شر، ولا يفترقان إلا على ثأر!

من أجل ذلك الإخلاص الملهم كان مرض كبلنج تحت الرعاية الملكية، وكانت جنازة كبلنج جنازة (شبه رسمية)!

إن في مثل سياسة الملك جورج لأماناً من طغيان الرءوس وثوران النفوس، وقيام الدعوات الباطلة، وشيوع المذاهب الجريئة، وانقلاب الحكم في الدولة، واضطراب السلم في الأمة، واغبرار العيش في أوجه العامة. إن في مثل أدب الشاعر كبلنج لروحاً مزهوة تعتلج بالشعور الوطني، وتختلج بالغرور القومي، وتدفع بالهمم الوانية إلى اللحاق، وتنزع بالنفوس الضارعة عن المذلة، وتكشف للقلوب المنخوبة عن معاني الرجولة!

إن في كل حادث ذكرى؛ وإن في كل حديث بلاغا!

احمد حسن الزيات