الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 134/النقد

مجلة الرسالة/العدد 134/النقد

بتاريخ: 27 - 01 - 1936


رد على نقد

4 - كتاب تاريخ الإسلام السياسي

للدكتور حسن إبراهيم حسن

تتمة

ومن الغرابة أيضاً أن نجد الناقد يأخذ علينا أننا كثيراً ما نستمد ونقتبس من كتب (تاريخ العرب) لسديو، و (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي، و (الحضارة العربية لجوستاف لي بون، و (أتباع محمد) لواشنجتن أيرفنج، لأنها في نظره أصبحت قديمة قاصرة من حيث المستوى العلمي في الوقت الذي نراه فيه يشيد بمدح المستشرق مرجليوث، ويستدل به في نفي الكتاب عن ابن قتيبة. وقد يدعوه الإعجاب بمرجليوث فيدافع عنه ضمناً بأننا لم نحسن الرد عليه حين قال: (في صدد الرجلين اللذين أرسلهما عامل كسرى على اليمن ليأتياه بالرسول، فلما قدم الرجلان على الرسول (ﷺ) أخبرهما بأن كسرى قتل وأن ابنه هو الذي قتله)، أن الرسول كان له من يأتيه بالأخبار!! أما والله لولا أن الناقد مسلم كما نعتقد!! لضننا أنه يردد صدى هذا المستشرق الذي ينكر كل معجزة للرسول ويذهب في التأويل بعيداً بحجة المعقول وغير المعقول، ولو كان حصوله أوضح من الشمس في وضح النهار

انظر إلى هذا الناقد يجعل من عيوب كتابنا أننا لم نبطل هذه الرواية الدالة على المعجزة أو نتأولها على الرغم من تعرض كتب السنة الصحيحة لها وإثباتها، وعلى الرغم من أنه يعلم كيف يتغلب التعصب الديني أحياناً على روح العلم والبحث عند بعض المستشرقين، فينظرون إلى ما ورد عن الرسول من خلال مذاهبهم الدينية لا أبحاثهم التاريخية، ولسنا في حاجة لإيراد الأمثلة والشواهد على ذلك، فهي في متناول كثير من الناس

ولشد ما أعجب من حضرة الناقد حين يأبى أن يكيل لنا المدح جزافاً، ولكنه لا يأبى أن يكيل الذم كذلك ويخطئنا تخطئة لا حق له فيها، من ذلك أننا لما روينا قول بعض المؤرخين أن بعض الخوارج كانت تصدر منهم أمور متناقضة تدل على أنهم يخبطو خبط عشواء، كلومهم آكل الرطبة بدون دفع ثمنها، واسترضائهم أ

ذمياً بدفع ثمن خنزير له قتلوه، وقتلهم عبد الله بن خباب وزوجه وبعض النساء - علقنا على ذلك فقلنا إن هذا ليس من التناقض في شئ، وإنما هو أقرب إلى أن يكون غلواً في تطبيق مذهبهم، وحجتنا في هذا أن الخوارج يرون وجوب قتل المسلم الذي لا يدين برأيهم لأنهم يعتبرونه مرتداً؛ وحروبهم المتعددة مع علي بن أبي طالب ومع الأمويين، بل وأشعارهم وأراجيزهم تنطق بذلك. أما الذمي فلا سلطان لمذهبهم عليه، كما إنهم كانوا لا يستحلون أكل المغصوب أياً كان صاحبه، ولو أنهم يستحلون قتل النفس التي حرّم الله قتلها. فمن أين يأتي التناقض يا ترى؟ حبذا لو أرشدنا الناقد إلى وجه آخر في هذه المسألة خلاف ما ذهبنا إليه! فليس إلقاء الكلام على عواهنه مما تُخدم به (المادة الناشئة في معاهدنا العلمية أو يحفظ لمصر سمعتها في الأقطار الشرقية!)

لا يقل خطأ الناقد في هذا عن خطئه في دعواه، بأننا مع استشهادنا ومباهاتنا بتلمذتنا لبعض المستشرقين ننسى ما ننقله عنهم أحياناً وننسبه لنفسنا، وأننا جرينا على ذلك في الفصل الذي عقدناه لمكتبة الإسكندرية، ويكفي في الرد على هذه الدعوى الجريئة أن يرجع القارئ إلى كتابنا عمرو بن العاص فيجد أننا ذكرنا هناك رأي (بطلر) مفصِلاً في إحراق هذه المكتبة، وعلّقنا عليه بما يستحق من تقدير. فإذا أحلنا القارئ إلى كتابنا المذكور، فذلك لأنه يعتبر خاصاً بهذه المواضيع مدوناً فيه آراء بعض العلماء منسوبة إليهم عن هذه الحادثة العظيمة الشأن

ولقد كنا نربأ ببعض الأقلام أن تنزلق عن منهج النقد الخالص إلى إلقاء التهم والظنون بين الناس وغرس ما لا يستحسن غرسه بين التلميذ وأستاذه أو بين المؤرخ والمؤرخ. وحاشا لله أن ندعي ما ليس لنا أو أن نجهل فضل من جلسنا أمامه مجلس التلميذ، فإذا رغبت بعض الأقلام في أن تتهمنا بالتدليس مع بعض الأساتذة المستشرقين، أو بالعقوق مع أستاذنا المرحوم الشيخ محمد الخضري بك الذي نقدره ونجله، فإنما تحاول عبثاً هذه الأقلام وتمكن من نفسها وتدل على مصرعها. إن المتصلين بنا يعرفون أن ليس من خلقنا إنكار الجميل. ونحمد الله أنه في الوقت الذي كان الناقد يفكر في هذه الوقيعة بيننا وبين أستاذنا المرحوم الشيخ محمد الخضري بك كان أحد أفراد أسرته يتكرم بزيارتنا ويعرض علينا أن نشرف على نشر ما خلفه المرحوم من الكتب التي لم تنشر في حياته. ويا للعجب إذا كانت الجرأة والضمير يطوحان ببعض الناس إلى إثارة الضغينة بين الحي والميت، فكم تبلغ عفتها في أن توقع بين الحي والحي!! ألا فليرح الناقد باله من هذه الناحية فلن يجد غرسه أرضاً خصبة ولا يشفي به غيظاً

كيف يمكن أن يوفق القارئ بين قول الناقد إن هذا الكتاب عرض لنواح شتى من الحياة الإسلامية القديمة: عرض لنواحي الدين، والسياسة، والاجتماع، والعقل، والأدب، وبين قوله - عفا الله عنه - (إن المؤلف غير موفور الثقافة الإسلامية وقد أداه تفريطه في جانب الثقافة الإسلامية إلى الإفراط في الأخذ عن المصادر الأجنبية)، ومن يدري؟ فلعل هذا تقريظ قلعت عيناه فأبصر

جرت العادة أن يسمى الكتاب بأبرز نواحي موضوعاته، اللبيب يدرك بداهة أن فتح عمرو بن العاص مصر مما ينطبق عليه انطباقاً كلياً لفظ السياسة ومعنى السياسة، ويدرك كذلك أنه كان لعقائد الفرق الإسلامية ومذاهبها المكان الأول في إحلال دول مكان دول، وتقويض عروش وتدعيم عروش. فهذه الدولة العباسية استطالت أعاليها بسبب انتشار العقائد الشيعية وتغلبها؛ وتلك دولة الفاطميين خلقتها المذاهب الدينية أيضاً. ودع عنك القرامطة، والباطنية، والخوارج وغيرهم؛ فتلك أمور يطول شرحها. فأنت ترى مبلغ تأثير تلك العقائد في الاتجاهات السياسية ركوداً وهبوباً، وماذا تكون السياسة إذا لم تكن هي خلق منشآت جديدة، وتنظيم أمور الناس وفق مشارب ملوكها وأمرائها، وطبع المجتمع على غرار ما يراه الحاكمون سواء بسواء؟ لكن ناقدنا يأتي مع هذا معنفاً بأن عنوان الكتاب قاصر لا يجمع مثل هذه البحوث، فما كانت تصح نسبتها إليه ولا وضعها فيه، ويتعطف فيرشدنا إلى أنه ينبغي - إذا لم تكن مندوحة عن ذكر هذه الأبحاث - أن نصوغ عنوان كتابنا بما يدل على الشمول، ويزداد تعطفاً فيذكرنا بكتاب (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي الهندي الذي نعرفه حق المعرفة! ولقد كان بودنا أن نتبع نصحه - ولو مرة واحدة - تشجيعاً للنقد، وثقة بنية صاحبه، لولا أنه سها عن أننا بسبيل وضع جملة أجزاء لكل جزء عصر خاص به. فإذا اقتدينا بمن ذكره لحق علينا قوله ليس لدينا غرض واحد محدود نرمي إليه ونسير على هديه، ولعله تذكر أخيراً أن هناك خمسة أجزاء باقية ستصدر بعد هذا الجزء - إن شاء الله - فلم يشأ إلا أن يزودنا - كعادته - بنصحه، وبأن نكون في وضعها أشد تحفظاً وأكثر تثبتاً

على أننا نضحك أشد الضحك حيث يرشدنا الناقد إلى الاقتداء يوضع السيد أمير علي لاسم كتابه (موجز تاريخ العرب) ذلك الكتاب الذي وصف مؤلفه بأنه (متوسط المكانة التاريخية) كما وصف أيضاً المؤرخ المشهور السير وليام ميور الذي خلف لنا كتابه في سيرة النبي وكتابه الآخر في الخلافة بأنهما قديمان. ونحب - قبل أن نترك هذه النقطة - أن نهمس في إذن الناقد بأن المؤلف الأول السيد أمير علي، الذي لم يرق في نظره أن أخذنا عنه بعض ما أخذنا، يقول عنه الأستاذ أدوارد براون في كتابه تاريخ الفرس الأدبي , , 4 188) في سياق كلامه على مبدأ ظهور الإسلام ما نصه:

(هذه المسائل قد ناقشها في مؤلفاتهم بكفاءة ولباقة كل من سيل، وسبرنجر، وميور، وكرهل، ونلدكه، وبوزول سميث، والسيد أمير علي

والسيد أمير علي هو ذلك المسلم العصري الواسع الفكر والاطلاع، جمع بين الثقافتين الشرقية والغربية، وهو حقيق بأن يطلع على كتابه كل من يرغب في تفهم ذلك النفوذ القوي الذي لا يزال يتمتع به الإسلام ونبيه، حتى في نفوس هؤلاء الذين أشربوا روح الثقافة الأوربية)

ونعود إلى بعض ما أورده حضرة الناقد - أستغفر الله! بل إلى الإرشاد ما نقده - ليعدل في المستقبل عن تكلف ما لا يحسن - على رأيه فينا - وليستوعب ما يقرأ ويصرف نشاطه في مدارستها، فما يكون الإنسان كاتباً إلا بعد أن يكون قارئاً، وإنها لكبيرة أن يعمد واحد إلى كيل التهم والتشكيك غير مراع للتاريخ حرمته، ولا للقارئ عقليته، ولا للحق كلمته

يقول: (إن تشريع القبلة وحكمته يظفران في كتابنا بثلاث صفحات، في حين أن غزوة بدر التي تعتبر بحق أهم وقائع الإسلام، ومن وقائع التاريخ الفاصلة لا تكاد تظفر بصفحة واحدة؛ وأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك تخص بصفحتين، في حين أن الأحداث الجسام التي وقعت زمن الخليفة يزيد ابن الوليد بن عبد الملك تركز وتضغط في أسطر قلائل)

وبحسبنا أن يرجع القارئ إلى كتابنا ليرى كيف تفتل بعض الأقلام من الهواء حبالاً، وتخلق من الواقع محالاً. إن غزوة بدر ومقدماتها ظفرا وحدهما من صفحات الكتاب بنحو ثلاث عشرة صفحة (صفحة 136 - 148)، وإلا فهل كان الناقد يظن الكلام في الجهاد وأسبابه، والغنائم وشرعيتها، وهل الدعاية إلى الدين كانت من طريق السلام أو الحسام - كل هذا يظنه بمنأى عن غزوة بدر ولا يتعلق بها، وأننا لم نفصل الكلام على هذه المواضيع بمناسبة تخالف تلك الغزوة الخالدة؟ وهل كان يريد أن نستبدل هذه الأحداث الهامة بذكر ما قيل في رثاء قتلى المشركين، وما تقدمت به قتيلة تعاتب الرسول لقتل أخيها النضر، وما وقع في قتل أبي جهل مما تختص به كتب السير؟ أما إن الأحداث الجسام التي وقعت زمن يزيد بن الوليد ركزت وضغطت في أسطر قلائل فدعوى غريبة، يكفي لوأدها صفحات الكتاب من 523 إلى 550، وفيها أسباب سقوط الدولة الأموية، والتعرض بالتفصيل لهذه الأحداث الجسام التي وقعت أيام يزيد وغيره

إنما اللوم على من يحسبها ... ظلمة من بعد ما يبصرها

في الأمثال (لا يشكر الله من لا يشكر المحسن من الناس) وإذا كنا في كلمتنا السابقة أخذنا على بعض المستشرقين أنهم أحياناً ينظرون إلى تاريخ الإسلام من خلال مذاهبهم الدينية، لا أبحاثهم التاريخية، فإننا لا نكتمهم حق الشكر على إنهم عاونوا في رفع الحجب التي أسدلتها العصور المظلمة على تاريخنا، وسلوكه في سلسلة تصل أوله بآخره، وتمد القابض عليها السائر حذاءها بما يمكنه من إدراك ما فيه من قوة وضعف واعتلاء وابتلاء. هذا ما كتبه فون كريمر، وبروان، وكرهل، والسير توماس أرنولد، وأميل درْ منجم وغيرهم، يدل على توفيق كبير في استخراج الوقائع والعبر التاريخية واضحة جلية بعد أن اختلطت أحداثها وتعددت نظمها وآراؤها، وبعد أن كان التاريخ سيراً يتفكه بها الخالون ويحتقرها العالمون، صار بفضل تلك الأبحاث العلمية الحديثة فناً كريماً تقرن فيه الموقعة بالموعظة، وتلحق فيه البينات والشواهد آثار رجالاته وبيئاته، حتى غدت منابعه عذبة للواردين وطرقه معبدة للمدلجين. فليس من الأصناف ما ذهب إليه الناقد من أن التاريخ الإسلامي لم ينهض بعد في الشرق نهضته المستقلة المنشودة، وأنه لا يزال قصصاً يقص وسيراً ساذجة تتلى. أجل! كان من حسن الحظ - أو من سوئه - أن الناقد بعد أن نعى علينا ما نعى، وبعد أن ملأ مقالاته الأربع بما يستر هب بعض الألباب حتى ظنته إمام هذه الصناعة، ذهب بعيداً جداً في الاعتداد والإرشاد، وعمم بعد تخصيص، وألقاها كلمة داوية بأن التاريخ الإسلامي في الشرق لم ينهض نهضته ولمّا يجد من يقيل عثرته، وأن روح الجماعات وأثر البيئة والتقاليد وعمل المبادئ والعقائد، والقوى الاجتماعية والاقتصادية لا تزال في العربية أسراراً لم ترفع عنها الحجب. فهذا الكاتب يرى أن كل ما ألف أو درس في التاريخ الإسلامي من أصول وفروع وبيئات وتقاليد لغو وباطل، سواء أكان الدارسون شرقيين أو مستشرقين

كان الظن بمن ينقد شيئاً أن يرينا مثلاً أعلى لما ينبغي أن يكون عليه طريق البحث ويدلنا عما صنع هو للاحتذاء والأسوة، فالنفس دائماً مولعة بأن تتبع ذا الفعال، وقلما تفيدها الأقوال (ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتعظيم من معلم الناس ومؤدبهم). ويظهر أن الناقد استشعر هذا الإشكال الجديد، فهو يحاول النجاة بأن الذي يحول دون نمو الروح التاريخي الصحيح في الشرق هو ما يعترض الباحث من وعورة المسلك وبعد الشقة وصعوبة المنال. مرحى مرحى!! كأنه يعتذر عن عدم إخراجه ولو مؤلفاً واحداً بما ذكر، ويتهم كل المؤرخين بأن التاريخ في كتبهم لا يزال قصصاً يقص وسيراً ساذجة تتلى، ويكتب أربع مقالات ينقدنا فيها نقداً لاذعاً، ويدعونا إلى الأخذ من هذا وترك الأخذ من ذاك. وما عهدنا واعظاً حكيماً يهدي إلى طرق لم يسلكها، ويكلف الناس بواجبات لم يتذوقها، أو يثقل عاتق الناس بما عجز عن حمله، أو يسهو عن أن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره. عفا الله عن ابن المقفع، فقد ذكر في ترجمة (كليلة ودمنة) أمثالاً صالحة لمن يغشى حلبة السباق وهو مقعد، أو يتولى سدة الوعظ وهو محتاج إلى الرشد

وبعد فما كان أغنى قراء (الرسالة) عن هذا كله، وما كان حق النقاد ألا يشرعوا قلمهم إلا لله والمصلحة العامة، لا تنزو بهم نازية من خوف أو طمع. ولكن هكذا قدر (ولو شاء ربك ما فعلوه)

ولقد رأى حضرات القراء أن هذه الزوبعة التي هول في أمرها وأطال بذكرها لم تكن بذات خطر تمد له في تجريحه مداً. ولله الحمد قد آن لنا بعد أن حصحص الحق أن نمسك القلم شاكرين (للرسالة) والقراء، معتذرين - بدورنا - عما عسى أن يكون يدر به القلم - فالبادئ أظلم. ومن لا يغار على الحق وكرامته يتهم في رجولته. (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)

انتهى

حسن إبراهيم حسن