الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 133/الشاعر الأندلسي المجهول

مجلة الرسالة/العدد 133/الشاعر الأندلسي المجهول

مجلة الرسالة - العدد 133
الشاعر الأندلسي المجهول
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 01 - 1936


رثاء الأندلس وما يحتويه من العناصر واللمحات التاريخية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

نشرت (الرسالة) في الأسبوع الماضي قصيدة رائعة هي رثاء مؤثر للأندلس بقلم شاعر أندلسي مجهول؛ ومهد الأديب المغربي الذي بعث بنصها إلى الرسالة بكلمة ذكر فيها أن هذه القصيدة نشرت بنصها الكامل في الجزائر لأول مرة سنة 1914 وأن صحيفة الزهرة التونسية نشرت منذ أعوام بعض مقاطيعها وطلبت إلى الأدباء أن يدلوا على ناظمها إذا استطاع أحدهم إلى ذلك سبيلا، ولكن أحدا منهم لم يظفر بالجواب؛ وأنه عرضها على مؤرخ المغرب الكبير السيد الدكالي السلاوي، فذكر أن ناظمها ربما كان أبا جعفر بن خاتمة وهو من أدباء المرية كما يستدل من بعض أبياتها، وأنها ربما كانت من محتويات كتابه المسمى (مزية المرية) الذي توجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأسكوريال؛ ويرجو الأديب المغربي في خاتمة كلمته أن يوفق أحد الأدباء المشتغلين بالأدب الأندلسي إلى معرفة ذلك الشاعر المجهول فيعلن اسمه

والحق أن القصيدة رائعة مبكية، وليس من ريب في أن ناظمها أديب كبير وشاعر بارع؛ ومن حق الأدب أن يُعرف هذا الشاعر المبدع وأن تحقق سيرته؛ بيد أننا نترك هذا البحث لمؤرخ الأدب الأندلسي في عصر السقوط؛ وفي رأينا أن أهمية القصيدة ليست في قيمتها الأدبية، بل أن أهميتها ترجع بوجه خاص إلى ما تضمنته من الإشارات واللمحات التاريخية لحوادث المأساة الأندلسية؛ وهي بهذا الاعتبار وثيقة تاريخية لها قيمتها؛ ولهذا رأينا أن نؤثرها بتحليل عناصرها الواقعية، وإيضاح ما فيها من الإشارات واللمحات التاريخية.

وأول ما يجب تحقيقه هو الفترة التي وضعت فيها القصيدة؛ وفي تعيين هذه الفترة تحقيق للعصر الذي عاش عيه الشاعر، وللظروف والملابسات التي أحاطت به؛ هذه الفترة على ما يبدو من كثير من مقطوعات القصيدة هي الفترة التي تلت سقوط غرناطة مباشرة؛ ونحن نعرف أن غرناطة سقطت في أيدي النصارى في صفر سنة 897هـ (ديسمبر سنة 1491) ودخلتها جنود فرديناند الكاثوليكي في الثاني من ربيع الأول (2 يناير سنة 1492)؛ وكانت قواعد الأندلس قد سقطت قبل ذلك كلها تباعاً في أيدي النصارى؛ فسقطت مالقة في شعبان سنة 892 هـ (1487م)، ووادي آش والمنكب والمرية في أواخر سنة894 هـ (1489م)، وبسطة في المحرم سنة 895 (ديسمبر سنة 1489)، وهي آخر قاعدة أندلسية سقطت قبل غرناطة؛ أما رندة التي يستهل الشاعر قصيدته بالإشارة إليها فقد سقطت في يد النصارى في سنة 1485 (890 هـ)؛ ويبدو من أقوال الشاعر المؤسية عن رندة أنه ربما شهد سقوطها، وأن هذا الحادث قد ترك في نفسه أثراً عميقاً يتردد بقوة في روعة استهلاله، وهو أبدع مقطوعة في القصيدة:

أحقاً خبا من جو رندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها

وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازلها ذات العلا وقصورها

أحقاً خليلي أن رندة أقفرت ... وأزعج عنها أهلها وعشيرها

وهدت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها

بل يلوح لنا أن الشاعر ربما كان من أهل رندة وقت سقوطها، وأن إشارته فيما بعد إلى المرية بقوله:

منازل آبائي الكرام ومنشئ ... وأول أوطان غذّانيَ خيرها

لا يذهب إلى أكثر من أن المرية كانت موطن أسرته ومسقط رأسه، وأنه قضى بها حداثته الأولى وربما كان ذلك حوالي سنة 860 هـ وأنه وقت سقوط رندة كان رجلاً ناضجاً يقف على مجرى الحوادث العامة وقوفاً تاماً.

ولنرجع إلى الفترة التي وضعت فيها القصيدة، فنقول إنه من المحقق مبدئياً أنها كتبت بعد سقوط غرناطة؛ وليس هناك ما يدل على أنها كتبت لترسل إلى السلطان بايزيد الثاني العثماني كما يظن الأديب المغربي الذي تولى نشرها. ذلك أن رسائل الاستغاثة التي وجهها زعماء الأندلس إلى السلطان بايزيد الثاني، وإلى الأشرف قاتيباي ملك مصر، وجهت منذ بدء الصراع الأخير، أعني منذ حصار مالقة وقبل سقوطها في سنة 893 هـ (1487م)؛ ولكن الاستغاثة لم تغن شيئاً، وسقطت قواعد الأندلس تباعاً في يد النصارى على النحو الذي فصلنا ولما اشتد النصارى في معاملة المسلمين بعد سقوط غرناطة؛ وأرغموهم على التنصر، وعصفت بهم محاكم التحقيق (محاكم التفتيش)، كتب بعض كبرائهم إلى بايزيد الثاني في أواخر عهده يستغيث به، وذلك حوالي سنة 1505م، أعني بعد سقوط غرناطة بنحو أربعة عشر عاماً، وقد استطال عهد بايزيد الثاني حتى وفاته في سنة 1512م؛ وقد نقل إلينا المقري هذه الرسالة في كتابه (أزهار الرياض) ونقل إلينا معها شعراً مؤثر يصف به صاحب الرسالة عسف محاكم التحقيق، ويبدو من أسلوب هذه الرسالة والشعر كيف انحدرت اللغة العربية وآدابها في الأندلس في تلك الفترة بسرعة مدهشة، وكيف استطاعت السياسة الأسبانية في مدى قصير أن تخمد جذوة الشعر والأدب.

أما القصيدة التي نحن بشأنها فيبدو أنها كتبت قبل ذلك بحين، والمرجح أنها كتبت في سنة 904 أو 905 هـ (سنة 1500م). ولنا على ذلك أدلة عديدة، منها قوة القصيدة وروعتها مما يدل على أنها كتبت عقب الفاجعة بأعوام قلائل قبل أن يخف وقعها في النفوس، وقبل أن تحدث السياسة الأسبانية أثرها في قتل اللغة العربية؛ ومنها الترتيب التاريخي الذي اتبعه الشاعر، فهو يورد الحوادث تباعاً بترتيبها التاريخي، إذا استثنينا إشارته إلى غرناطة؛ وبيان ذلك أنه يبدأ بالإشارة إلى سقوط رندة، وقد كانت أول قاعدة سقطت في أيدي النصارى سنة 890هـ (1485م) كما قدمنا؛ ثم يتبعها بالإشارة إلى سقوط مالقة في قوله.

فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة ... قد استفرغت ذبحا وقتلا حجورها

وجزت نواصيها وشلت يمينها ... وبدل بالويل المبين سرورها

وقد كانت الغريبة الجنن التي ... تقيها فأضحى جنة الحرب سورها

وفي هذا البيت الأخير إشارة فطنة إلى موقع مالقة ومناعتها وكونها كانت حصن الأندلس من الغرب، فلما سقطت سقطت قواعدها في يد العدو تباعاً؛ ويشير الشاعر بعد ذلك إلى سقوط بلش مالقة في قوله.

وبلَّش قطت رجلها بيمينها ... ومن سريان الداء بان قطورها

وضحت على تلك الثنيات جحرها ... فأقفر مغناها وطاشت حجورها

وكان سقوط بلش وهي حصن مالقة من الشمال الشرقي في جمادى الأولى سنة 892هـ (إبريل 1487م) وعلى أثر سقوطها حاصر النصارى مالقة واستولوا عليها في شعبان من هذه السنة (أغسطس سنة 1487).

ولما استولى النصارى على مالقة أخذت ثغور الأندلس وقواعدها الباقية تسقط تباعا في يد النصارى فسقطت المرية والمنكب في أواخر (سنة 894هـ - 1489م)، وسقطت بسطة في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر 1489م)؛ ثم استولى النصارى على وادي آش قاعدة مولاي عبد الله (الزغل) في صفر من تلك السنة (يناير 1490م)؛ ويشير الشاعر إلى هذه الوقائع بعد ذلك في قوله:

وبالله إن جئت المنكب فاعتبر ... فقد خف ناديها وجف نضيرها

وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها ... سكارى وما استاكت بخمر ثغورها

وبسطة ذات البسط ما شعرت بما ... دهاها وأنى يستقيم شعورها

وما أنس لا أنس المرية إنها ... قتيلة أوجال أزيل عذارها

ولم يبق بعد سقوط هذه القواعد في يد المسلمين سوى غرناطة، وقد سقطت في يد العدو في صفر سنة 897هـ (ديسمبر سنة 1491م) وإلى ذلك يشير الشاعر خلال ما تقدم:

ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم ... قد ارتج باديها وضج حضورها

بدار العلى حيث الصفات كأنها ... من الخلد والمأوى غدت تستطيرها

محل قرار الملك غرناطة التي ... هي الحضرة العليا زهتها زهورها

ترى الأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستعبر وسريرها

ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها

فهذا الترتيب التاريخي خلال قصيدته من عميق تأثره بالحوادث التي يصفها، مما يدلي بحداثة عهده بالمأساة حسن وضع رثاءه المفجع؛ بيد أن هنالك أيضاً في قصيدته ما يكاد يعين هذا العهد في نظرنا وهو قوله:

وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا ... جيوش كموج البحر هبت دبورها

علامات أخذ ما لنا قبل بها ... جنايات أخذ قد جناها مثيرها

فلا تمتحي إلا بمحو أصولها ... ولا تنجلي حتى تخط أصورها

معاشر أه الدين هبوا لصعقة ... وصاعقة وارى الجسوم ظهورها

أصابت منار الدين فانهد ركنه ... وزعزع من أكنافه مستطيرها

فهذه الإشارات تنصرف في نظرنا إلى أول محاولة قام بها الأسبان لتنصير المسلمين، ونقض عهودهم التي قطعوها لهم عند تسليم غرناطة باحترام دينهم وشرائعهم، وتأمين أشخاصهم وأعراضهم وأموالهم وحرياتهم. وكان ذلك سنة 904هـ (1499م) حينما قرر مجلس الدولة أن يفرض التنصير على المسلمين، وذلك لأعوام قلائل فقط من سقوط غرناطة. بل يلوح لنا أن الشاعر يشير بقوله:

ألا واستعدوا للجهاد عزائما ... يلوح على ليل الوغى مستنيرها

بأسد على جرد من الخيل سبق ... يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها

بأنفس صدق موقنات بأنها ... إلى الله من تحت السيوف مصيرها

إلى الثورة التي حاولت بعض المناطق الإسلامية أن تقوم بها مقاومة لقرار التنصير؛ ويلاحظ هنا أن الشاعر يقف عند هذه الواقعة في الإشارة إلى الحوادث التاريخية مما يدل على أنها آخر حادث أدركه وقت نظم مرثيته؛ فإذا صح الاستنتاج الذي سقناه على النحو المتقدم، فأنا نستطيع أن نقول إن الشاعر وضع مرثيته كما قدمنا حوالي سنة 904 أو 905 هـ (نحو سنة 1500م).

وهذا ومما يلاحظ أيضاً أن الشاعر قد تأثر في مواطن كثيرة من قصيدته بالقصيدة الطائرة الصيت التي نظمها سلفه ومواطنه أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، وأنه أستمد منه بعض الوحي والمعنى؛ فقوله مثلاً:

فوا حسرتا كم من مساجد حولت ... وكانت إلى البيت الحرام شطورها

ووا أسفا كم من صومع أوحشت ... وقد كان معتاد الأذان يزورها

فمحرابها يشكو لمنبرها أحوى ... وآياتها تشكو الفراق وسورها

مستمد من قول أبي البقاء في مرثيته:

حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلا نواقيس وصلبان

حتى المحاريب تبكي وهي سجادة ... حتى المنابر ترثي وهي عيدان

وقوله:

وكم طفلة حسناء فيها مصونة ... إذا أسفرت يسبي العقول سفورها

تميل كغصن البان مالت به الصبا ... وقد زانها ديباجها وحريرها

فأضحت بأيدي الكافرين رهينة ... وقد هتكت بالرغم منها ستورها مستمد من قول أبي البقاء:

وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت ... كأنما هي ياقوت ومرجان

يقودها العلج للمكروه مكرهة ... والعين باكية والقلب حيران

وهكذا في مواطن أخرى. بيد أن شاعرنا يفيض في نظمه وفي تصويره قوة وطرافة. وليس من ريب أن مرثيته المفجعة من أبلغ وأروع ما رثيت به دولة الإسلام في الأندلس.

محمد عبد الله عنان