مجلة الرسالة/العدد 132/من أحاديث النيروز
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 132 من أحاديث النيروز [[مؤلف:|]] |
في الحب والمرأة ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1936 |
كنا ليلة النيروز المسيحي نسمر في دار صديق؛. . ولهذا الصديق زوجة من لوزان، دقيقة الفهم، رقيقة الشمائل، لطيفة التكوين؛ أغرمت بمصر وأخلاق أهلها اغراماً شديداً، فهي تحاول أن تتكلم الغربية، وتؤثر أن تعيش على الأوضاع المصرية، وتتابع بالنظر العطوف نهضتنا المجاهدة، وتدافع بالحجة القارعة ما تفتريه علينا الألسن الأوربية الجاحدة، وتحب كلما حضرت مجلسها أن تناقلني الأحاديث في مصر والعرب والإسلام والشرق، وهي في كل ذلك واسعة الاطلاع من طول ما تسافر ومن كثرة ما تقرأ.
كان زوجها وفريق من المدعوين يلعبون الورق على المائدة المغرية، وكان فريق آخر يستمع إلى (الراديو) وهو يذيع الأناشيد الكنسية المهللة، وأنا وهي على كرسيين متقابلين أمام المدفأة، نتجاذب على عادتنا أطراف الحديث المشقق، ونتصفح على طريقتنا أوجه الرأي المختلف، فأجد في حديثها الشهي الممتع ما يجده ذلك الذي يلعب، وذاك الذي يشرب، وهذا الذي يسمع!
تناهزت النفوس الحبيبة لذة الصفو في الساعات المودعة، وتجاوبت في البيع القريبة أصوات النواقيس المرنة، وتلاقت الحياة والموت في قلب الليلة المخضرمة، وتهتكت سدول المهد المحجب عن العام الوليد؛ فقالت لي ساعتئذ والرفاق يتبادلون المودة بالعيون، ويتناقلون التهنئة بالشفاه:
انظر كيف يولد العام المسيحي في بقاع الأرض!! إنه يولد كما يولد الأمل المعسول في النفوس المرحة الغضة، فالكنائس تعج بالصلوات المستبشرة، والمنازل تفيض بالمسرات المتجددة، والعالم الغربية كله لا يذكر في هذه اللحظة عاماً دفن مع الأمس، ذوت فيه نواضر المنى، وذهب معه بعض العمر، وإنما يذكرون عاماً يولد مع اليوم، فتستأنف نشاطها فيه، وتستمد رجاءها منه، وتستقبل حدثان الغد بالثغر الباسم والعزم الصارم والنظر الرغيب. . وما أدري - وقد نشأت في ربوع الغرب وطوفت في بعض أنحاء الشرق - لماذا كان المسلمون وحدهم اليوم رماد الموقد المضطرم: يتحرك بهم الفلك وهم ساكنون، وتتفجر عليهم الأحداث وهم غافلون، ويلقون في مراغة الذل وهم راضون، وتؤكل بهم أرزاق الأرض وهم قانعون، ويجادل عنهم خصومهم وهم ساكتون؟ أيرجع ذلك إلى العقيدة أم إلى الطبيعة؟ فأجبتها والخجل يكسر من طرفي ويعقد من لساني: ربما كان مرجعه إلى الاثنتين معا!
وكانت تنظر إلى لهب النار يرقص واريا بين وقود المدفأة، فحولت في دهشة وسرعة وجهها إلي وثبتت نظرها في، وقالت: كيف؟! ألم تكن عقيدتهم اليوم هي العقيدة التي ألفت من شتات البدو دولة، وبعثت من جوف الصحاري حضارة، ونفخت في قلوب الصعاليك من روح الله فطمحوا إلى ملك كسرى وهم جياع، وسموا إلى عرش قيصر وهم عراة، وصمدوا إلى حكم العالم وهم سذج؟
ألم تكن طبيعتهم اليوم هي الطبيعة التي تكرمت عن الدون، وتجافت عن الهون، وتسامت إلى القدر الخطير، وتمردت على الطغيان المستبد، وجعلتهم يضعون أنفسهم في كفة، والعالم كله في كفة، فسموا - كما علمت منك - من عداهم بالعجم، كما سمى الرومان من عداهم بالبربر؟
فقلت لها: كلا وا أسفاه! ليست العقيدة هي العقيدة، ولا الطبيعة هي الطبيعة! كانت عقيدتهم كما قلت سامية تبعث الطموح، صافية تكسب الخلوص، بسيطة تنتج الرفاق، جامعة توجب الوحدة؛ توفق بين الدين والدنيا من غير كلفة، وتصل بين الله والإنسان من غير واسطة، فاختلط بها في القرون الأخيرة شعوذة الهنود وأساطير اليهود وصوفية الفرس ولاهوتية اليونان، فأصيبت بالخدر الذاهل والتواضع الجبان، والزهد الكسول، والاتكال المخلف، والجدل العقيم، والاختلاف المفرق؛ ثم تبخر من هذا الخليط المشوه إكسير الحياة فلم يبق إلا الرواسب الغريبة، وتصعد منه عبير الروح فلم يبق إلا الأوراق الجفيفة؛ فالدين اليوم شعائر من غير شعور، وتقليد من غير فهم، واعتقاد من غير تطبيق، وشعوذة من غير حقيقة، وأحكام من غير حكم.
وكانت طبيعتهم كما قلت أبية تأنف الضراعة، طماحة تكره القناعة، وثابة تحاول التفوق، طلاعة تحب المغامرة؛ فامتزجت بها من بعد الفتوح دماء الأجناس المملوكة، وأدواء الأمم المنهوكة، وأوباء الأقاليم القصية؛ ثم قرت فيها صبابة الأحقاب، وانتهت إليها نفاية الأعقاب، وناءت بها أعباء التقاليد. فالعقلية الإسلامية اليوم مشوبة غير صريحة، معقدة غير واضحة؛ وهي من عبث الأحداث متنافرة لا تلتئم، متخاذلة لا تقاوم.
إنما العقيدة الخالصة والطبيعة السليمة لا تزالان في بوادي الحجاز وهضبات نجد؛ ولكن العالم غير العالم، والوسيلة غير الوسيلة، والغاية غير الغاية!
فإذا لم نجل عن عقيدتنا هذا الصدأ العارض، وننف عن ثقافتنا هذا الهراء الغث، ونجُدّ من خلفنا ذيل التقاليد الفاسدة، ظل سيرنا يا سيدتي بطيئاً لا يلحق، وجهدنا باطلاً لا يفيد.
وكانت فورة اللعب والطرب قد قرت في نفوس القوم، فخلت المائدة، وسكت الراديو، وفتر الحديث، وتهيأ السامرون للخروج، فلم تستطع السيدة أن تعقب على هذا الكلام.
احمد حسن الزيات