مجلة الرسالة/العدد 131/الشك لا يهدي
→ سكان أعالي النيل | مجلة الرسالة - العدد 131 الشك لا يهدي [[مؤلف:|]] |
الحق هو القوة ← |
بتاريخ: 06 - 01 - 1936 |
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
- 1 -
رأيتُ الهدى في الشكّ والشك لا يهدي ... كأنيَ بالظلماء قد كنتُ أستهدي
فطوراً أقول الروح كالجسم هالك ... وطوراً أقول الهُلكُ عنه على بعد
فيالك من شك يبرّح بي ولا ... يبارحني حتى أُسّدَ في لحدي
وإنيَ لا أدري أرشديَ كان في ... ضلاليَ هذا أم ضلاليَ في رشدي
أأفقد جسمي وحده عند ميتتي ... أم الروح مثل الجسم يشمله فقدي
أروحٌ وجسمٌ أم هو الجسم وحده ... يحرّكني فيما يضلّل أو يهدي
أعذّب حوبائي بما أنا فاكرٌ ... كأنيَ من أعداء حوبائيَ اللُدّ
- 2 -
إذا كان روحي مثل جسمي يَهلك ... فأني لأبكي في مصابي وأضحك
ولو خيروني بين تركي لواحد ... فأني لجسمي دون روحيَ أترك
يحرّك روحي الجسمَ وهو يحلّه ... فمن ذا لهذا الروح فيَّ يحرّك
وقبل وجودي أين كان مكانه ... فهذا هو الشيء الذي لستُ أدرك
وقد يستطيع الروحُ حلاً لمشكلي ... ولكن مجالُ الروح في الجسم يضنك
وأطلب من عقلي الهدى في ضلالتي ... ومن أين يعطي العقلُ ما ليس يملك
دع الموتَ يأتي فتكه بهما معاً ... كما كان هذا الموت بالناس يفتك
- 3 -
عهدتك يا روحي إلى الحق تجنح ... فهل بجواب إن سألتك تسمح
تقول سأبقى بعد موتك خالداً ... أأنت تريد الجدَّ أم أنت تمزح
فإن كان جداً ما تقول فما الذي ... ستصنع بعدي يومَ مني تبرح
تجيب وقد يُغرى جوابك قائلاً ... سألحق أرواحَ الذين تطوحوا
وإن الفضاء الرحبَ ما زال طافحاً ... بأرواح موتى في السموات تسبح فقلت له في سبيلك راشداً ... ولا تنس جسماً ليس بعدك يصلح
فيا روح قبّلني وصافح مُودِّعاً ... فأنيَ لا أدري متى لك ألمح
- 4 -
نهارٌ لسيل النور فيه دفوق ... وليلٌ كأن النجم فيه خروق
ألوفٌ من الأكوان تقصو كأنها ... تريد أتساعاً بالفضاء يليق
وعند أفتكاري في الوجود كأنني ... أخوض خِضماً والخِضمُّ عميق
طريقي لإدراك الشؤون معّبدٌ ... ومالي لإدراك الوجود طريق
فيا نفس سيري في الفضاء طليقةً ... فلا شيء فيه للنفوس يعوق
لأنتِ شعاع طار من مستقرّه ... وكلُ شعاع بالبقاء خليق
تحيق المنايا بالجسوم كثيفة ... وأما بأرواحٍ فليس تحيق
- 5 -
يقولون إن النفس حقٌ وجودُها ... فلا ينبغي إنكارها وجحودها
وبعد الردى تطوى السماء خفيفةً ... وإن بعدت في اللاتناهي حدودها
وما الجسم إلا دولة مستقلة ... لها حكُمها في أهلها وجنودها
وما أهلها إلا خلايا صغيرة ... وما النفس ذات الحول إلا عميدها
وما هي إلاّ ومضةُ من شعاعة ... فإن خلدت ما كان بدعاً خلودها
فقلتُ لهم هذا جميلٌ وعله ... خيالاتُ عقلٍ شاردٍ لا أريدها
ولم يكن الإنسان إلا أبن غابةٍ ... على فُجأةٍ قد أنجبته قرودها
- 6 -
سيطفئ يأسي في المشيب حياتي ... وأذهب من نور إلى ظلمات
ويحملني صحبي إلى القبر إنني ... به بعد حين لست غيرَ رفات
تقَطَّعُ اوصالي وتبلى جوانحي ... وليس بوسعي أَن أبث ّشكاتي
وأجْملْ بأيام الصبِّا فهي لم تكن ... على الفم من دهري سوى بسمات
ولكن أيام الصبا قد تصرّمت ... ولم تبق ذكراها سوى الحسرات وفارقت أيامَ الشباب حميدةً ... وإن كَثرت في عهده عثراتي
قضيت شبابي مُطمئناً وبعده ... أتى الشيب منهوكاً من الشبهات
- 7 -
من الموت مهما مضّ لستُ بخائف ... ولكن وراء الموت ماذا مصادفي
خضعتُ لعقلي في حياتيَ كلها ... وما كنت يوماً خاضعاً لعواطفي
وكنت إلى لمس الحقائق نازعاً ... أنزه سمعي من سماع السفاسف
تعذّبتُ عمراً من مخالفة الورى ... فيا ليتني قد كنت غيرَ مخالف
عجبت لجذعي كيف ظلّ مقاوماً ... فقد كان معروضاً لضرب العواطف
لقد قذفتني بالمسبات ثلّةٌ ... ولم أتجنّب شرَّ تلك القذائف
وكم شنّ ذو جهل على العلم غارة ... وكم كان ذبّي صادقاً في مواقفي
- 8 -
تجمّع يرميني خميس عرمرم ... أأنكص كالمغلوب أم أتقدم
ولكنني اخترتُ التقدّمَ إنه ... لمن كان يستبقي الحياةَ لأسلم
وللعلم أنصارُ وللجهل مثلُها ... ولكن أنصار الجهالة أعظم
لقد حاربوني بالمسبّة والخنا ... وحاربتُهم بالعلم والعلُم مخذم
إذا كان ليلي قد تجهّم وجهُه ... فأن صباحي بعده يتبسّم
يقصّ عليك الشيخُ منهم خرافةً ... فتحسب أن الشيخ في النوم يحلم
تصرّم عهدُ الجهل في الغرب كله ... ولكنه في الشرق لا يتصرّم
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي