مجلة الرسالة/العدد 131/اجتلاء العيد
→ الرسالة في عامها الرابع | مجلة الرسالة - العدد 131 اجتلاء العيد [[مؤلف:|]] |
الرمز في الأدب الصوفي ← |
بتاريخ: 06 - 01 - 1936 |
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء يومُ العيد؛ يومُ الخروج من الزمن إلى زمنٍ وحدَهُ لا يستمرُّ أكثر من يوم.
زمن قصير ظريفٌ ضاحك، تفرضُهُ الأديان على الناس، ليكون لهم بين الحينِ والحينِ يومٌ طبيعيُّ في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.
يومُ السلام، والبشرْ، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنّتم بخير.
يومُ الثيابِ الجديدة على الكل إشعاراً لهم بأن الوجه الإنسانيَّ جديدٌ في هذا اليوم.
يومُ الزينة التي لا يراد منها إلا إظهارُ أثرها على النفس ليكون الناس جميعاً في يوم حب.
يومُ العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلوَ الكلمات فيه. . . .
يوم تعمُّ فيه الناسَ ألفاظُ الدعاء والتهنئة مرتفعةً بقوةٍ إلهية فوق منازعات الحياة.
ذلك اليومُ الذي ينظر فيه الإنسانُ إلى نفسه نظرةً تلمحُ السعادة، وإلى أهله نظرةً تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرةً تدرك الجمال، وإلى الناس نظرةً ترى الصداقة.
ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسُه بالعالم والحياة.
وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكلَّ جمالُه في الكل!
وخرجتُ اجتلي العيدَ في مظهره الحقيقيْ على هؤلاء الأطفال السعداء.
على هذه الوجوه النَّضرة التي كبرتْ فيها ابتساماتُ الرضاع فصارت ضحكات.
وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها؛ وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم؛
وهذه الأجسام الغضة القريبة العهد بالضمات والَّلثمات فلا يزال حولها جوٌّ القلب.
على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياساً للزمن إلا بالسرور.
وكلٌّ منهم ملكٌ في مملكة؛ وظرفهم هو أمرهم الملوكي.
هؤلاء المجتمعين في ثيابهم الجديدة المصبَّغة اجتماعَ قوسِ قُزَح في ألوانه.
ثيابٌ عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأبُ والأمُّ على أطفالهما.
ثيابٌ جديدة يلبسونها فيكونون هم أنفسهم ثوباً جديداً على الدنيا.
هؤلاء السَّحرةُ الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين. . .
ويسحرون العيد فإذا هو يومٌ صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللَّعِب.
وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر، فيبقى الفجرُ على قلوبهم إلى غروب الشمس.
ويُلْقُون أنفسهم على العالَم المنظور فيبنون كلَّ شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحبْ الخالص، واللهو الخالص.
ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة، فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة.
هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد.
والذين يرون العالم في أول ما ينمو الخيالُ ويتجاوزُ ويمتدْ يفتَّشون الأقدارَ من ظاهرها؛ ولا يَسْتَبْطِنون كيلا يتألموا بلا طائل.
ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا لها الهمْ.
قانعون، يكتفون بالثمرة؛ ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها.
ويعرفون كُنه الحقيقة، وهي أن العِبرة بروُح النعمة لا بمقدارها. . . .
فيجدون من الفرح في تغيير ثوبٍ للجسم، أكثر مما يجده القائدُ الفاتحُ في تغيير ثوبَ للمملكة.
هؤلاء الحكماءُ الذين يشبه كلٌّ منهم آدمَ أولَ مجيئه إلى الدنيا.
حين لم تكن بين الأرض والسماء خليقةٌ ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضَّر.
حكمتُهم العليا: أن الفكر الساميَ هو جعلُ السرور فكرا وإظهارُه في العمل.
وشِعورهم البديعُ: أن الجمالَ والحبْ ليسا في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح.
هؤلاء الفلاسفةُ الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة.
وبذلك تعيش النفسُ هادئةً مستريحةً كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الُميسرة.
أما النفوسُ المضطربةُ بأطماعها وشهواتها فهي التي تبتلي بهموم الكثرة الخيالية.
ومثَلُها في الهمْ مَثَلُ طُفيليْ مغفَّلٍ يحزن لأنه لا يأكل في بطنين.
وإذا لم تكثر الأشياءُ الكثيرةُ في النفس، كثرت السعادة ولو من قلة.
فالطفلُ يقلَّب عينيه في نساءٍ كثيرات، ولكن أمَّه هي أجملهن وإن كانت شو هاء.
فأمه وحدها هي أمُّ قلبه، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب هذا هو السرُّ؛ خذوه أيها الحكماءُ عن الطفل الصغير!
وتأملت الأطفال وأثر العيد على نفوسهم التي وسعت من البشاشة فوق ملئها.
فإذا لسانُ حالهم يقول للكبار: أيتها البهائم اخلعي أرسانك ولو يوماً. . . . . . . . .
أيها الناسُ انطلقوا في الدنيا انطلاقَ الأطفال يُوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة.
لاكما تصنعون إذ تنطلقون انطلاقَ الوحش يُوجد حقيقتَه المفترسة.
أحرارٌ حرية نشاط الكون ينبعث كالفَوضى ولكن في أدقْ النواميس.
يثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف لأنهم على وفاق مع الطبيعة.
وتحتدم بينهم المعارك ولكن لا تتحطم فيها إلا اللعب. . . .
أما الكبارُ فيصنعون المدفعَ الضخَم من الحديد للجسم اللّين من العظم.
أيتها البهائمُ اخلعي أرسانك ولو يوماً. . . .
لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يُولد؛ فهم يستقبلونه كأنه محتاجٌ إلى عقولهم الصغيرة.
ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر الخلق لقربهم من هذا السر.
وكذلك تحمل السنة ثم تلد للأطفال يوم العيد؛ فيستقبلونه كأنه محتاج إلى لهوهم الطبيعي.
ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم، لقربهم من هذا السر.
فيا أََسَفَا علينا نحن الكبار! ما أبْعَدَنا عن سرْ الخَلْق بآثام العمر!
وما أبعدنا عن سِر العالَم بهذه الشهوات الكافرة التي لا تؤمن إلا بالمادة!
يا أسفَا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن حقيقة الفرح! تكاد آثامنا والله تجعل لنا في كل فَرْحَة خَجْلة. . .
أيتها الرياض المنوِّرةُ بأزهارها!
أيتها الطيور المغرِّدة بألحانها!
أيتها الأشجار المصفِّقة بأغصانها! أيتها النجومُ المتلألئة بالنور الدائم!
أنتِ شَتى؛ ولكنك جميعاً في هؤلاء الأطفال يوم العيد!
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي