مجلة الرسالة/العدد 130/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ الشادوف | مجلة الرسالة - العدد 130 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 30 - 12 - 1935 |
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشة
الإنسان للأستاذ خليل هنداوي
يرى نيتشه شريعة العبيد ومثل الزهد وسلطة الكاهن تقوم أركانها على جملة أكاذيب فارغة؛ وهو لا ينظر إلى الشريعة المسيحية نظرة الرافض لها، وإنما يجد فيها خطراً كبيراً وتدميرا. إن قطيع المنحطين وقائدهم كاهنهم الزاهد تراهم وقد قضي عليهم بأن يغمضوا أعينهم عن بيان أصول الأشياء، لكي يضعوا - موضع الامتحان والحقيقة التجريبية - شريعتهم وقيمهم الوهمية الضالة التي عالجوا بها حل أسرار الوجود. لو أدرك المريض حقيقة أمره، وعرف مكان عافيته، وموطن شفائه، وعلم أن علاج الكاهن لا يزيح من ألمه الحقيقي شيئاً، وإنما هو علاج ظاهر يعمل على تشديد الألم بدلا من أن يعمل على تخفيفه وشفاء صاحبه؛ لو علم ذلك كله لرأيت العمارة المسيحية قد انهارت دعائمها واندكت صروحها. إن المنحط الضعيف يتحرى عن مخفف حقيقي لآلامه عند الطبيب أو عند الموت. وقد أحس الكاهن هذا الخطر فأخذ يحدث قرناءه دائماً عن الإيمان، وهو الاقتناع المبني على غير العقل، عن الإيمان الذي لا يحفل بحقيقة الأشياء، وهل الإيمان بحقيقته إلا أن تفرض وهما تشعر بضرورةوجوده في الحياة، تفرض وجوده بأي ثمن كان
في كل عصر يرى الكاهن في الحكمة الدنيوية والعلم الواقعي الذي يدرس الوجود للعلم، غير حافل بقواعد الدين، يرى الكاهن فيهما خصمين عنيفين، وهو يحلل كل وسيلة تصرف الإنسان عن التأمل في الأشياء بعين نفسه، وعن جلاء الحقيقة عارية مجردة من غير تشويه. وهذا ما لا يتساهل فيه نيتشه، ولقد يغفر للمسيحية ما تبث في الإنسانية من آلام، وما عسى يضر الألم الإنسان إذا كان الألم يصفيه؟ وفي الحقيقة نرى الإيمان الديني قد خلق أرواحاً كثيرة أفادت البشر؛ ولم يكلف نتشيه نفسه بيان الآلاء التي قامت بفضل ثورة العبيد فأغنت النوع الإنساني وظلت من الانقلابات المعتبرة في التاريخ. ونتشيه يعجب بالمنطق العظيم في المنطق الديني الكاذب، وبالمذهب الذي ابتدعه وظل يغذي الناس ط عشرين قرناً بالأوهام الخيالية، وقد يعجب بالكاهن برغم أنه ينطوي على إرادة شريرة، لأن إرادته تستمد شعورها من نفسها، لا تحوك الأوهام حول الهدف الذي تقصده ولا حول الوسائل التي تصطنعها. وأما يستفز غضب نيتشه من العالم المسيحي فهو ذلك المحيط القدسي الذي يحيط به، وذلك المزيج من المكر والغباوة والطهارة الكاذبة التي يتظاهر بها رجال الإيمان. فاستفاق في نتشيه شعوره الوحشي وحبه للطهارتين المادية والروحية، وجرأته في الذهاب وراء أقصى ما أشرف عليه عقله، فثار وتمرد على هذا التدليس كله، ثم انصرف عن هذه الجماعة، وفي قلبه سأم من رجالها الذين غدا الوهم عندهم جزءا من الأجزاء التي لا يتم بدونها الوجود؛ وهم لا يعرفون أنفسهم حين يخدعون ويخادعون وحين يكونون صادقين، يعيشون أسرى أوهامهم حين يريدون أو لا يريدون؛ وأعلن بأن المسيحية هي المسئولة عن تسميمها للبيئة العقلية والأدبية في أوربا.
على أن جهود الكنيسة كلها في مناضلة العلم ذهبت عبثاً، ومقاومتها للعقل البشري انطلقت أدراج الرياح؛ فان في أوربا كثيرين من علماء الطبيعة - على اختلاف مناهجهم ومدارسهم - يعيشون في غير أكناف الدين والإيمان؛ هؤلاء هم أعداء الكاهن. ولكن سائلا يسأل: وما بال عقول هؤلاء لم تضع سداً يمنع تأثير الوهم المسيحي؟ وكيف لم يفلح أصدقاء الطبيعة والحياة والعافية في تحطيم القيم المسيحية؟
كان جواب نتشيه على هذا السؤال جواباً أدبيا، يقول: إن هؤلاء العلماء لا يؤمنون بعلمهم، ومعنى ذلك أنهم لا ينصرفون إلى تبديل المثل الأعلى الديني بمثل أعلى عندهم؛ أو أنهم يؤمنون بعلمهم ويأتون بحل جديد للحياة يستمدون مادته من المثل الأعلى المشيد على الزهد؛ أو أن رجال العلم هم رجال متوسطو الإدراك، عاجزون عن إبداع شريعة جديدة؛ أو أنهم قوم زاهدون محتالون عالمون؛ لا يختلف جوهر مثلهم الأعلى عن مثل الكهان
يشبه نتشيه هذا العالم (المتوسط) بامرأة عجوز لا تلد ولا تنجب. وهو قليل القناعة بنصيبه
ولآن فلننظر في تعريف رجل العلم!
إن رجل العلم يتصل نسبه بذرية بشرية غير شريفة. تنطوي نفسه على خلال ذرية غير شريفة، ذرية لا تأمر ولا تملك السلطة، ولا تغني شيئاً. إنه عامل دائب يدرك بشعوره حاجات قرنائه. إنه وارث أمراض ذرية غير نبيلة، ملك عليه الزهور ومشى لا يتحرى إلا عن الأشياء السفلية في الطبائع. أما العظمة فهي بعيدة المنال عنه. وإن مما يجعل العالمجليل الخطر شعوره الباطن بأنه من ذرية متوسطة، فهو والحالة هذه يدأب عاملاً على إبادة الرجل (الشاذ)
ولا ريب أن العالم يحيا بعيداً عن كل إيمان؛ ألا ترى فطرته في كثير من المواطن توائم فطرة رجل الدين، ثم يخالفه ويفر من ملامسته وملامسة أمثاله، لأنه يعتقد كل الاعتقاد بأن رجل الإيمان هو نموذج سفلي في البشرية، وأن رجل العلم هو أسمى منه. على أن هنالك هوة سحيقة تفصل بين رجل الدين رجل الإرادة الكبيرة المريضة، المقاتل الظافر بفضل هذه الإرادة، والخالق قيماً يعتقد بصحتها، وبين هذا الرجل العالم الجريء، هذا القصير المعجب بنفسه وعلمه. يعمل كما تعمل الآلهة ليزداد ضلالاً، ولينعتق من التفكير، وليزيح من سبيله هذه المسائل المغلقة! قد يكون عمله حسناً لو كان يعمل مستوحياً نفسه، لكنه يعمل ليكون مأموراً عاجزاً عن إبداع قيمة جديدة عاجزاً عن أن يتذرع بإرادة
لنحكم العالم (غير الذاتي) الذي نضجت فيه الحاسة العملية قد ساد أمره فماذا ينتج منه؟ لا شيء إلا مرآة. . . وآلة لا إرادة لها. . . إنه يشبه المرآة التي تعكس الأشياء، ترتقب حتى تظهر عليها فتعكس مرآها، وإنما غناء في أن يكون معبراً تمر به الأشياء. لا يحس ولا يلمس آلامه الشخصية. يعمل ما يستطيع، ولكن ما يعطيه حقير لا قيمة له. هو لا يأمر ولا يخرب شيئاً، يقول مع (ليبينز): (أنا لا أحتقر شيئا). إنه آلة تتجلى فيها العبودية والخضوع والطاعة. مفتقر إلى معلم يهديه إلى الغاية المقصودة. وهو ليس بعلامة حركة جديدة، ولا بعلة أولى. إنه وا أسفاه ليس بمعلم. إنه وعاء فارغ يتخذ لون السائل المراق فيه، إنه فاقد الشخصية
ثم هاجم نيتشه الشكوكيين الذين يصل بهم علمهم إلى حيرة يتساوى فيها العود والهبوط، والعلم والجهل، وإنما يتميزون من رجال العلم بأن هؤلاء عاملون دائبون كالآلات؛ أما الشكوكيون فهم عقول أضعفها تريضها الزائد في العلوم، وهم ليسوا بشيعة واحدة، فمنهم المضطرب والمعتدل المزهو بنفسه، ومنهم النفس التي تبذل الجهد في كشف أسرار الوجود وقد دوختها أسراره حتى غدت تروح وتغدو كالخيال الدقيق ليس له من قرار
ألا ترى إلى زرادشت - نبي نيتيشه - المبشر بالسوبرمان قد سحب وراءه خيالا من هذه الأخيلة الضالة، رافقته في كل مراحله، قد طلقت كل أيمان كان فيه عزاء، وحطمت كل الأوثان، وفقدت أيمانها بالأسماء الكبيرة والرموز الفخمة حتى أضاعت غايتها في النهاية، وضلت في زوايا الوجود الموحش هائمة بدون حب ولا رجاء ولا وطن. رآها زرادشت فلم يتمالك نفسه من الإشفاق عليها
- قال بكآبة: أنت ظلي!
إن الخطر الذي تفر منه ليس بحقير أيها المسافر!
إن أمامك نهاراً سيئاً فاحترس من أن يكون مساؤك أسوأ. إن السجن لأمثالك الطائشين قد يصبح نعمةً لهم
أرأيت هؤلاء العاتين المفسدين، يجرجرون في قيودهم!
هؤلاء ينامون نوماً هادئاً لأنهم مرتاحون بطمأنينتهم
أحترس في النهاية أن تغدوا سجين إيمان ضيق ووهم قاس مرعب. على أن كل ما هو ضيق قاس هو لك فيه إهواء وخديعة
أنك أضعت الغاية، وكذلك أضعت سبيلك
يالك من نفس ضالة طائشة! يالك من فراشة منهوكة القوى
ولكن رجال العلم ليسوا جميعاً على هذا النحو الذي صوره نيتشه، فهنالك رجال يقين من رجال العلم، علم هؤلاء لا يقف عند قولهم: ماذا ندري؟ هو علم وثاب يخلق إرادة ويبدع شريعة ومذهباً
(يتبع)
خليل هنداوي