مجلة الرسالة/العدد 130/التضحية
→ المتنبي في ديوانه | مجلة الرسالة - العدد 130 التضحية [[مؤلف:|]] |
السنيون والشيعة والمؤتمر ← |
بتاريخ: 30 - 12 - 1935 |
للأستاذ محمد روحي فيصل
صلاح الأمة للبقاء أو قوة حيويتها إنما تظهر أشد الظهور إذا أصاب تلك الأمة شر، أو ألمّ بها خطب، أو انتابتها أزمة في السياسة أو في المال، أو في الأخلاق، مما يجل وقعه، ويشق احتماله؛ ذلك لأن جميع الأمم تستطيع أن تعيش في الرخاء، وتسمو بالنعيم، ولكنها لا تستطيع كلها أن تعيش وتسمو إذا أحدقت بها الشدة، وحفت بها المكاره، وتنكر لها الدهر، وعبست في وجهها الحياة
بلى! قليلة جداً تلك الأمم التي تستطيع أن تعيش وتسمو إبان المحنة والشدائد، لأن كل أمة من الأمم تحتاج حينئذ إلى أن تستمد حياتها من حياة أبنائها، وتعتمد في شفائها على سواعد أفرادها؛ فإذا كان خلق التضحية قويا فيهم، متأصلا في نفوسهم، مشتملا عليه كلهم أو جلهم، نجت تلك الأمة من الشر إن كان نازلا بها، أو تقدمت إلى غايتها إن كانت لها غاية عليا تعشقها وتطمح إليها
أما الأمة الأثرة التي لا تعرف من التضحية غير أسمها، فهي محكوم عليها بالفناء والموت، لا بد أن يخني عليها الذي أخنى على لبد
لما اشتدت الأزمة المالية أخيراً على الأمة الإنكليزية رأينا كيف أن مظاهر التضحية لم تنحصر في رؤساء الأحزاب فحسب، وإنما تعدتهم إلى الأفراد رجالا ونساء، فكانت الفتاة الفقيرة تهب سوارها الذهبي الذي أهدته إليها أمها قريرة العين طيبة الخاطر؛ وكانت العائلة الفقيرة تتنزل راضية عن جنيه من كسبها الذي لا تحصل عليه إلا بشق الأنفس وترفقه بكلمة كهذه: (مساعدة متواضعة لملكنا وشعبنا من أسرة (فقيرة))
كذلك كل أمة نالت شأوا بعيداً في المجد، وبلغت مكانة عالية بين الأمم، ما نالت ذلك الشأو وما بلغت تلك المكانة، إلا بتضحية أبنائها أمامها بالأنفس والأموال تضحية صادقة صحيحة! ولعمر الحق ما كانت تكون لأجدادنا العرب، أبناء الصحراء، وساكني الجزيرة، تلك السيادة الرفيعة، وذلك السلطان المرهوب، لو لم يكونوا متشبعين بخلق التضحية إلى أقصى مدى
ونحن، إذا كنا قد تنبهنا بعد الغفلة واستيقظنا بعد النوم، فاستأنفنا طريقنا إلى العلياء وطالبن بحريتنا المسلوبة واستقلالنا المفقود، فإنما يجب أن نتجشم تكاليف ما نطالب به ونضحي لنيله القليل والكثير، ونتحمل ما نلاقي في سبيله من ألوان المكاره وضروب المشاق، ونصبر على صنوف العقبات حتى يلين صلبها ويسهل صعبها، فأنه لا تنال المطالب إلا مكافحة ومغالبة، لأن الحياة معركة، فما لم يدرك فيها بالملاينة والمحاسنة، أدرك بالعنف والمخاشنة. . .!!
إن رجال هذه الأمة جميعاً ثلاثة: رجل لا علم له بما عليه من الواجبات نحو وطنه فلا يعنيه شأنه، ولا يهمه أمره، ولا يعبأ به ولا يحفله، فهو جاهل؛ ورجلٌ أخذ من الدين بقشوره، وشرب من مورده العذب مصة خفيفة ظنها غاية ما يرتوي به المرتوون، فقضى أوقاته في البحث في المحيرة والحيض والنفاس، ونصب نفسه لعداوة كل جديد وإنكار كل ما يألف، فهو جامد؛ ورجلٌ يجري وراء منافعه الشخصية أينما رآها وتخيلها، يراها في جانب مصلحة عامة فيظهر في زي المصلح الداعي إلى هذه المصلحة ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا تراءت له منفعة خاصة لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس والوطن داسه بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته تواً لا يلوي على شيء، فهو خبٌ منافق
فإذا أزيل عن الأول جهله، وأزيح عن الثاني جموده، وشنًّع على الثالث خبَّه ونفاقه، وعمل على بث خلق التضحية فيهم وتقويته عندهم، مع تبصيرهم بمقتضيات الأحوال كما يقول البديعيون - إذا فعل هذا عظمت الفائدة، وتوفرت العائدة على الوطن، وسارت الأمة مسرعة إلى مطمحها
(حمص)
محمد روحي فيصل