مجلة الرسالة/العدد 13/شروح وحواشي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 13 شروح وحواشي [[مؤلف:|]] |
لغو الصيف ← |
بتاريخ: 15 - 07 - 1933 |
الشعر بعد أميريه:
عام مضى أو كاد على يومي حافظ وشوقي! فهل شعب القلوب الدامية عنهما سلوان، وعزى النفوس الآسية منهما عوض؟ لا يزال الجزع يهفو بالأفئدة على مستقبل الشعر اليتيم، ولا يزال الصمت الموحش يقبض الصدور في خمائل الوادي، بلى، نشط في مصر القريض، وتجاوبت الأفراخ النواهض بالأغاريد، ولكن أصواتها الناعمة الرخوة لم تملأ الأسماع ولم تطرد الوحشة، ولاحت في سورية المهاجرة مواهب النبوغ، ودلائل القيادة، ولكن البعاد يبدد الصوت القوي، والاغتراب يوهن الجهد الجهيد. كان اسم حافظ واسم شوقي علمين على الشعر في العهد الأخير، وكان الناس يؤمنون بقوة أدبية لازمة تظاهر نهضتنا، وتساير ثقافتنا، في هذين الشاعرين. فكلما خفقت القلوب لنزوة من الألم، أو لنشوة من الأمل، أصغت الأسماع تنتظر من رياض (الجيزة) أو ربى (حلوان) تلحين هذه العواطف، أو تدوين هذه المواقف. فلما خلا مكان الرجلين وقع في الأوهام وجرى على بعض الأقلام أن تلك القوة زالت وأن زمان الشعر ذهب! فحاول عشاق الأدب ورواد القريض أن يقرّوا في الرؤوس سلطان هذا الفن، ويقروا في النفوس وجود هذه القوة. فحشدت جماعة (أبولو) جميع وحداتها، وعزفت جوقتها على جميع آلاتها، وشرّقت الصحف والمجلات بفيض القرائح الشابة، ودعا الكهول القرَّح إلى عقد موسم للشعر، والزمن الذي يمحص الأشياء فينفي البهرج، الزائف ويثبّت الحق الصريح، هو الذي يعرف مكان هذه الجهود، من عالم الفناء أو من عالم الخلود.
موسم الشعر:
وقع في نفس الأستاذ الهراوي منذ شهرين أن يدعو الشعراء إلى مواضعة الرأي في إقامة موسم للشعر، فلبّى فريق، وتأبّى فريق، ورأت جماعة (أبولو) في الدعوة إحتكاراً لفضل الفكرة، واقتصاراً على بعض أغراض الشعر فأهملتها، ثم قررت أن تقوم هي بمهرجان سنوي جامع. ثم سعى بين الجماعتين ساع من حسن النية وشرف القصد فاتفقتا على العمل معا، ثم اجتمع أعضاؤهما في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، ونظروا في نظام الجماعة ومنهاج العمل، ومضى الشعراء الموظفون يلتمسون من معالي وزير المعارف شرف الرئاسة للموسم فأجاب الملتمس، ثم اضطربت الألسنة والأقلام بالفكرة التي قام عليها، والغاية التي يقصد إليها، فلم نخض مع الخائضين وإنما تحدثنا إلى القائم بالدعوة نستجلي منه الغرض فما أجاب إلا جمجمة، فقلنا ليس في الأمر إذن إلا قصائد تنشد على المسرح، وتصفيق يدوي في الحفل. ثم ريح لينة تذهب رخاء بهذه الأصوات إلى مجاهل الأبد.
ولكن موسم الشعر تولى أمره نفر من كبار الأدباء فرسموا خطته وعينوا وجهته ونشروا ذلك في بيان للناس فجعلوا وجوده أمرا لاشك فيه، وتسجيله عملا لابد منه.
أصبحت (جماعة موسم الشعر) بحكم البيان المنشور مجمعاً أدبيا له وسائله وله أغراضه. فأما وسائله فقرض الشعر الفصيح ووضع البحوث في الأدب، وإلقاء المحاظرات في الموسم، وأما أغراضه فإقامة موسم عام للشعر العربي في مدينة القاهرة. و (العمل للاحتفاظ في الشعر العربي بقوة الأسلوب ووضوحه، والجري على ما تقتضيه ضوابط اللغة من الصحة وما تتطلبه خصائص البيان من بعد الأسلوب عما يضعفه أو يفنيه في غيره أو يقطع صلة حاضرة بماضيه، وتقريب ما بين الشعر العربي وغيره مع المحافظة على السنن العربي والعمل لتنوع أغراضه وفنونه وأخيلته ومعانيه، وإبراز الحياة الحاضرة والمدنية القويمة في صورها الصحيحة، والمحافظة في الشعر على الذوق العربي مع مماشاته لحاجات العصر وروحه. وتوجيه الشعراء إلى القيام بحاجة العامة والتلاميذ من الشعر في أغانيهم وأناشيدهم، وحفّز مواهب الشعراء إلى تهيئة السبل لظهورها والانتفاع بها، وخدمة اللغة العربية ونشر آدابها وتقويم ملكاتها وتنمية ثروتها من الألفاظ والمعاني والأخيلة، وتوثيق الصلات الأدبية بين مصر والأقطار العربية الأخرى.)
والرسالة تؤيد هذه الأغراض السامية من غير تحفظ، وتدخر غبطتها بها وتصفيقها لها ليوم التنفيذ؛ فإن صوغ الأماني ووضع الأنظمة وإذاعة العزم شيء، وتجويد العمل وتنفيذ الفكرة وتحقيق الغرض شيء آخر. ولعلك تذكر أن (مجمع اللغة العربية الملكي) سُن له قانون، ورصدت له أموال، ورشحت له رجال، ودعيت إليه دعوة، ووعدت به حكومة، ومع ذلك فقد انقضى عليه عام وهو لا يزال كما كان منذ سنين عدة من عدات المنى، وحديثاً من أحاديث الظنون!! عيد المولد:
لعل أروع المظاهر الإسلامية في مصر مولد الرسول، لأنه ائتلاف منسجم من جلال الدين وأبهة الحكومة وابتهاج الشعب، ولكنه كذلك أدل الدلائل على البطء الفاتر في شيوع المدنية وارتقاء الذوق في مهد الحضارة القديمة، وأسبق الشرق القريب إلى الحضارة الحديثة!
إن كنت ذهبت إلى هذا الاحتفال منذ بضعة أيام، فثق أنه هو الذي ذهب إليه أجداك منذ عشرات الأعوام!: خيام مضروبة على الثرى الجديب، ومطاعم منصوبة على الطريق المغبر، وملاعب كنماذج الصناعة في عهد (ما وراء الفن)، وملاه يراها المثقف فبظن نفسه في مصر غير مصره، أو في عصر غير عصره!
أظهر المظاهر في هذا العبد شيئان: الأسهم النارية وهي الشيء الوحيد المدني. لأنها الشيء الوحيد الأجنبي! والحلوى، وهي موضع البلوى ومحل النظر!: حوانيت خشبية وقتية ثابتة أو منتقلة، تكدست فوق رفوفها البالية ألوان (السمسمية والحمصية والسكرية والعلف)، ثم قامت على حواشيها تماثيل وعرائس هشّة من الحلوى الرديئة، عليها غلائل فاقعة الألوان من الورق المصبوغ، وكل ذلك في غير ذوق ولا جمال ولا فن، وكل ذلك من غير غطاء ولا وقاء ولا ستر! إنما هي مهبط للذباب والغبار، طول الليل وطول النهار! يراها الخاصة فيشمئزون من شكلها القبيح، وقذرها البادي، وبائعها الوسخ، ويحملها العامة إلى بيوتهم في المناديل الغليظة والجرائد القديمة فيحملون مثابة للنمل ومباءة للجراثيم!
إن حلوى عيد الميلاد في ديسمبر، وألعاب يوم الحرية في
يوليو، مثلان أجنبيان في سلامة الذوق وجمال المظهر وحسن
المتاع، فلتبق حلوانا وطنية، ولتبقَ ألعابنا شرقية، ولكن ارفقوا
بالذوق والجمال والصحة فأدخلوا عليها شيئاً من المدنية! أحمد
حسن الزيّات