مجلة الرسالة/العدد 129/بعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي
→ المجنون | مجلة الرسالة - العدد 129 بعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي [[مؤلف:|]] |
المتنبي في ديوانه بمناسبة ذاكره الألفية ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1935 |
1 - بعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان الخفاء وما يزال الفضول والروع، ومصدر الأساطير الغريبة الشائقة؛ وفي عصور ومواطن كثيرة كان الخفاء عماد دعوات وثورات سياسية واجتماعية خطيرة، وكان مبعث دول قوية قامت في ظروف غامضة، واستندت في قيامها إلى دعوات ومبادئ خفية؛ وكان هذا الخفاء نفسه مصدر قوتها وحياتها. وقد شغلت هذه الفورات والدعوات الخفية فراغا كبيرا في التاريخ الإسلامي، وخصتها الرواية الإسلامية بكثير من التفصيل والجدل؛ ومازلنا نلمس آثارها حتى اليوم في بعض الطوائف والمجتمعات التي تلوذ في عقائدها وتقاليدها بكثير من الغموض والخفاء.
وقد كانت قصة المهدي المنتظر بلا ريب من أشد مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي وكانت أخصبها موردا للأساطير، واحفلها بالدعوات والفورات الخفية؛ ويكفي أن هذه الأسطورة الغريبة كانت مبعثا لطائفة من الدول القوية التي كان لها أكبر الأثر في سير التاريخ الإسلامي كما أنها كانت مصدرا لطائفة من الدعوات والمذاهب الدينية والاجتماعية التي شغلت مكانا كبيرا في الكلام الإسلامي. كانت أسطورة المهدي عماد الدولة الفاطمية التي قامت في قفار المغرب الأوسط حول تلك الشخصية الخفية - شخصية المهدي المبعوث - وحول رسالتها وإمامتها؛ ثم افتتحت مصر والشام وبسطت سيادتها على قلب العالم الإسلامي فيما بين آسيا الصغرى والحرمين؛ وكانت عماد دولة الموحدين التي قامت في قفار المغرب الأقصى، وسادت بسائط المغرب والأندلس أكثر من قرن؛ وكانت عماد طائفة كبيرة من الثورات والفتن الدينية التي وقعت في مختلف العصور في أنحاء العالم الإسلامي. وكان الخفاء صفة ملازمة لأسطورة المهدي قبل البعث وبعده، يسبغ على القائم ودولته وخلفائه نوعا من القداسة الروحية أو السمو فوق بني الإنسان.
ومنذ عصر الإسلام الأول تتبوأ هذه الأسطورة مكانها في الكلام الإسلامي، وتقوم على عناصر الغموض والخفاء، فنرى من غلاة الشيعة من يقول إن عليا بن أبي طالب لم يمت، ولكنه حي غائب عن أعين الناس، مستقر في السحاب، صوته الرعد والبرق في سوطه؛ ونرى منهم من يقول مثل ذلك القول في ولده محمد بن الحنفية، وأنه مستقر في ج رضوى من أعمال الحجاز؛ ثم نرى الأسطورة تتخذ بعد ذلك صبغتها السياسية وتدعم بالأسانيد الكلامية والشروحي التاريخية، ولكن مع اقترانها بصفة الخفاء دائما. وخلاصة الأسطورة (أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من آل بيت يؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويعيد مجد الإسلام ودولته ويسمى بالمهدي). أما هذا الإمام الخفي فمن هو؟ هو من ولد علي بن أبي طالب؛ ولكن يختلف الشيعة في مساق الإمامة أصولا وفروعا؛ وليس من موضوعنا أن نتعرض لهذا الجدل؛ ولكننا نذكر فقط أن أشهر فرق الشيعة الإمامية، وهم الاثنا عشرية، يقولون إن الثاني عشر من أئمتهم، وهو محمد بن الحسن العسكري، هو المهدي، وإنه لم يمت؛ ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ثم يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؛ وزاد بعض الدعاة على ذلك فحددوا لظهروا المهدي تواريخ معينة، وكلهم يستتر لتأييد مزاعمه وراء الرموز والإشارات الغامضة، مما يسبغ على دعوتهم دائما لون السرية والخفاء.
وكما كان الخفاء مبعث القداسة والخشوع قبل تحقيق الظفر السياسي، فكذلك كان الخفاء بعد تحقيق هذا الظفر مصدر القوة والنفوذ للدولة أو الأسرة التي تتشح بثور الدعوة أو الإمامة أو الرسالة، ولنا أسطع مثل على ذلك في الدولتين، الفاطمية والموحدية. بيد أن هنالك أمثلة محلية كثيرة للاعتصام بهذا الخفاء المروع، وما كان يترتب على هذا الاعتصام من النتائج المادية والمعنوية المدهشة؛ ويكفي أن تكون هذه الغمر الخفية مبعثا لأكثر من دعوة بالنبوة، بل مبعثا لدعوة الألوهية ذاتها، وأن تقوم عليها عقائد ومذاهب كان لها أثر قوي في سير العالم الإسلامي وما زالت تمثل في عصرنا.
- 2 -
ويقدم لنا التاريخ الإسلامي أمثلة عملية مدهشة قوامها الخفاء المادي والروحي؛ ومن الصعب أن نستوعب هذه الأمثلة أو أن نحصيها جميعا في هذا المقام المحدود، ولكننا نقدم منها بعض أمثلة شهيرة.
ففي أواخر القرن الثالث من الهجرة ظهرت دعوة القرامطة مستظلة بالدعوة الشيعية والإسماعيلية وقوامها التبشير بالمهدي المنتظر؛ وظهر داعية القرامطة الأول الفرج بن عثمان القاشاني الملقب بذكرويه في جنوب العراق، ولبث حينا يبث دعوته سرا وخفية؛ وتلاه تلميذه وصاحبه (قرمط) مؤسس المذهب الحقيقي يبث الدعوة جهرا، ويدعو إلى إمام من آل البيت هو المهدي الذي يظهر فيملأ الأرض عدلا، فلما ذاع أمره قبض عليه عامل الكوفة وألقاه إلى ظلام السجن، ولكنه استطاع أن يفر من سجنه في ظلام الليل بمساعدة جارية للحاكم؛ وكان هذا الداعية الجريء يدرك سر الخفاء وفعله في نفوس الكافة فاختفى على أثر فراره حينا، وألقى في روع أنصاره أنه رفع إلى السماء فازدادوا به فتنة؛ ثم ظهر بعد ذلك وكأنه قد بعث، ثم فر إلى الشام ولم يوقف له على خبر بعد ذلك، فكان هذا الاختفاء في ذاته عاملا في ذيوع الدعوة القرمطية واضطرامها.
ورأى الفرج بن عثمان أو ذكرويه أن يخوض أيضا غمر الخفاه، ليحدث مثل الأثر الذي أحدثه اختفاء قرمط، فنزح إلى القفر وتوارى عن الأنظار في مكان ناء، في مغار أنشأه لذلك، واستخلف أولاده للدعوة، ولبث أعواما طويلة يعمل ويدبر الخطط من وراء ستار، ويوجه أكابر أنصاره وخاصته حتى اشتدت دعوة القرامطة بعد قتال رائع، وجرح ذكرويه وأسر، وحمل إلى بغداد حيث توفى من جراحه بعد أيام، ومثل بجثته أشنع تمثيل (سنة 294هـ) بيد أن فورة القرامطة كانت قد اجتاحت يومئذ أنحاء البحرين، واستقرت هنالك قوية منذرة، واستمرت خطرا داهما على الشام ومصر وأطراف الجزيرة حتى أواخر القرن الرابع.
- 3 -
على أنا نجد أروع مثل للخفاء فيالدولة الفاطمية، في قيامها، وفي وسائلها، وفي خلفائها؛ فقد نشأت هذه الدولة القوية في قفار المغرب على يد دعاتها السريين وشيعتهم من القبائل البربرية المتعصبة الساذجة، وكان أول خلفائها عبيد الله المهدي شخصية خفية غامضة لم يستطع التاريخ أن يقف على حقيقتها أو يتقصى نسبتها؛ واستمر هذا الخفاء يغمر شخصية الخلفاء الفاطميين، وهذا الريب يغمر أصلهم ونسبتهم، حتى أننا نجد أشراف مصر يطلبون إلى المعز لدين الله حيث مقدمه إلى مصر أن يوقفهم على، نسبه، فيجمعهم في مجلس عام ويسل نصف سيفه ويقول لهم هذا نسبي، ثم ينثر عليهم ذهبا ويقول لهم هذا حسبي، ونجد خصوم الفاطميين ولا سيما بني يتخذون هذا الريب في نسبهم مثارا للطعن في إمامتهم وفي ذممهم وعقائدهم مما لا يتسع المقام لبسطه؛ بيد أن هناك حقيقة تلفت النظر، هي أن الخلفاء الفاطميين، ولا سيما الأوائل منهم كانوا يزعمونعلم الغيبومعرفة الخفاء، ومما يروى في ذلك أن العزيز بالله الفاطمي صعد المنبر ذات فرأى رقعة مكتوب فيها.
بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة
إن كنت قد أعطيت علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقة
وذلك إشارة إلى دعواهم علم الغيب؛ وقد اتخذ تعلق الفاطميين بالخفاء واستظلالهم برموزه صورا واضحة لهم أثرها القوي في بناء الدولة الفاطمية وفي خططها ووسائلها؛ بل كان هذا التعلق بالخفاء سياسة مقررة للخلافة الفاطمية؛ فنراها منذ استقرت بمصر مجالس الحكمة الشهيرة في القصر وفي الأزهر وتعني بأن تكون هذه المجالس مبعثا لتعاليمها المذهبية؛ ثم نرى هذه المجالس يتسع نطاقها شيئا فشيا وتغدو، جزءا من نظم الدولة الروحية والاجتماعية، ونراها تعقد للنساء والكافة، وينصب للأشراف عليها رجل من أكبر موظفي الدولة هو قاضي القضاة، وينعث في هذا المنصب (بداعي الدعاة). وفي عهد الحاكم بأمر الله تتخذ الخطوة الأخيرة والحاسمة في تنظيم مجالس المحكمة، وتنظيم الدعوة السرية الفاطمية بصورة رسمية وتنشأ دار الحكمة الشهيرة، لتستأثر بتنظيم الدعوة وبثها على يد نخبة من الدعاة والنقباء (سنة 395هـ)؛ وقد اتخذت دار الحكمة منذ قيامها صبغة مذهبية واضحة قوامها بث الروح والمبادئ الدينية الفاطمية، وكانت هذه مهمتها الظاهرة؛ بيد أنها كانت تعمل في الظلام لغاية أخرى يغمرها الخفاء، هي بث الدعوة السرية الفاطمية. ولا يتسع المقام للإفاضة في تفاصيل هذه الدعوة الغريبة ورسومها، ولكنا نقول فقط أنها كانت من أغرب الدعوات السرية المذهبية؛ وكانت موزعة على مراتب تسع يتدرج فيها الطلبة على يد الدعاة، ويدفعون تباعا إلى حظيرة التعاليم الفلسفية والالحادية؛ ويبدأ الطالب في جو من الإيمان العيق، ولكنه لا يصل المرتبة السادسة أو السابعة حتى يكون قد انحدر إلى غمر الإنكار المطبق؛ ويبدو مما نقل إلينا من تفاصيل هذه الدعوة الغريبة ومن موضوعات مراتبها، أن الغاية الأخيرة التي كانت تعمل لها الدعوة السرية الفاطمية هي هدم كل اعتقاد وكل عقيدة دينية، والانتقال بالطلبة والصحب إلى حظيرة الإلحاد المطبق والترفع عن العقائد الروحية العامة التي تؤكد الدعوة أنها لمتوضع إلا للكافة، ولا يلزم بها ذوو الإفهام الرفيعة وقد استمرت هذه الجامعة الغريبة، أعنى دار الحكمة، عصرا ثبت العقائد والمبادئ الفاطمية، الخفية والظاهرة، وكانت جهودها السرية أخطر وأشد أثرا في توجيه الحركة الروحية في مصر؛ بيد أنها لم توفق إلى تحقيق الغاية التي عملت لها، ولم تستطع أن تطبع المجتمع المصري بطابع عميق من الدعوة التي كانت مبعثها ومستقرها، وكانت جهودها بالعكس عاملا في بث أسباب السخط على تلك السياسة التي رسمت للاستئثار بتوجيه العقائد وبث الإنكار والإلحاد؛ واضطرت الخلافة الفاطمية غير بعيد أن تعدل عن هذا الإغراق في بث العقائد المذهبية، فتضاءلت أهمية دار الحكمة، ثم أغلقت بعد ذلك؛ بيد أن هذه الدعوة السرية ذاتها تمخضت كما سترى عن نتائج مدهشة سريعة الأثر.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان