مجلة الرسالة/العدد 128/حول السنين والشيعة
→ في الأدب الأمريكي | مجلة الرسالة - العدد 128 حول السنين والشيعة [[مؤلف:|]] |
وا أُمَّاهُ!! ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1935 |
إلى الأستاذ أحمد أمين
للأستاذ السيد محمد صادق الصدر
يسرني ويسرني جداً أن أقرأك أيها الأستاذ الأمين على صفحات (الرسالة) - صحيفة الأدب الخالدة - حاملاً لواء الوحدة، داعياً إلى الاتحاد والألفة. وإن في لحنك الجديد العالي - يا أستاذ - لذة ومتاعا، وإن فيه كل ما تصبو إليهالنفوس الحساسة الشاعرة، وإن تفسيرك للفظة الشيعية التي وردت في كتابيك الجليلين وسفريك الثمينين: فجر الإسلام وضحاه، وتصريحك بأنك لم تقصد من لفظ الشيعة الأمامية الاثني عشرية منهم، وإنما قصدت المغالي الممعن في غلوه، كل ذلك منك عاطفة مشكورة هذه لدليل أقوى دليل، وبرهان أسطع برهان، على أدب نفسك وطهارة ذاتك، وعظيم أخلاقك وخلالك. وكن على يقين معي بأن تصريحك هذا قد رفع سوء التفاهم وأزال من نفوس إخوانك الشيعة البررة كل ملامة وعتب؛ وإذا قرأت أو سمعت عن مفكريهم شيئاً لا يرضيك، فإنما كان ذلك غيرة على طائفتهم ودفاعاً عن آرائهم ومعتقداتهم، وهذا طبيعي لكل أمة تحتفظ بكرامتها، وتحرص على سمعتها؛ واسمح لي بأن أقول إنهم لم يخطئوا إذ فهموا من لفظ الشيعة أنك عنيتهم ما دام لفظ الشيعة مطلقاً غير مقيد؛ وليس في كتابيك (فجر الإسلام وضحاه) عبارة واحدة على تقييد الشيعة بالغالية لتخرج الاثني عشرية عن لفظ الشيعة المطلق الذي يشمل فرق الشيعة المتعددة؛ ومن المقرر في أصول الفقه أن المطلق إذا لم تقم قرينة تدل على تقييده يحمل على إطلاقه. وقد تكون ثمة قرائن - لا قرينة واحدة - قامت لدى الشيعة على الإطلاق وحملتهم على ما فهموه، فان ذكرك للفظ الشيعة مطلقاً أيضاً في كتابك (ضحى الإسلام) - بعد أن زرت العراق وطفت بمدن الشيعة، واجتمعت برجالاتها، وعرفت الشيء الكثير من عقائدها وآرائها - سوغ لهم هذا الفهم وحملهم على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد؛ ولست أريد بكلامي هذا أن أثبت أنك تقصد ما فهموه، وإنما أريد أن أقول إنهم لم يخطئوا في فهمهم ما دام إطلاق اللفظ كان يحتم عليهم فهم ذلك. وعلى كل حال سترى من الشيعة إخواناً شاكرين أفكارك وآراءك الأخيرة
وأود أن ألفت نظرك إلى نقطة مهمة وردت في مقالك القيم، فقد قلت: (وليست الأمام التي يدين بها أهل العراق وفارس إلا فرقة واحدة من فرق عديدة بعضها باق إلى اليوم، وبعضها عفى عليه التاريخ). إن الطائفة الاثني عشرية هي الطائفة الوحيدة اليوم من طوائف الشيعة وهي مبثوثة في العراق وفارس والهند وأفغان وسورية والبحرين والحسا والقطيف وفي غيرها من الأقطار الإسلامية، وكل ما يبرز للعالم من آثار علمية ومنتوجات أدبية هو مما دبجته أقلام علماء هذه الفرقة وكتابها وشعرائها، ولم يبق من طوائف الشيعة المتعددة غير هذه، اللهم إلا بعض طوائف ضئيلة لا تذكر. لذلك أصبح لفظ الشيعة اليوم خاصاً بهذه الطائفة يتبادر إلى الذهن لدي إطلاقه؛ وقد بادت - والله الحمد - أكثر هاتيك الطوائف الضالة التي شوهت سمعة الشيعة. وأملي وطيد ألا تعرض في الجزء الثالث من فجر الإسلام إلى غير هذه الطائفة لأنها هي الطائفة الوحيدة من بين طوائف الشيعة المتعددة، التي يطلق عليها لفظ الشيعة بكل ما لهذه اللفظة من معنى؛ فهي التي شايعت علياً عليه السلام وتابعته في أفعاله وأقواله، وليست طوائف الشيعة الضالة من التشيع في شيء ما دامت أفعالهم وأقوالهم لا تتفق وأقوال أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم. ومن الخطأ جداً أن نجعل المقياس والجامع للتشيع حب علي (ع)، لأنا إذا أردنا أن نجعل المقياس هذا العنوان وجب أن نطلق على السنيين لفظة الشيعة أيضاً، لأنهم يحبون الأمام ويقدسون شخصيته، فالمقياس للتشيع إذن هو المشايعة والمتابعة، وهو الذي يقتضيه لفظ الشيعة؛ أما الطوائف التي لا نجدها مطابقة لهذا اللفظ فليست من الشيعة في شيء وإن ألصقت نفسها إلصاقا واتخذت لها هذا الاسم وساماً
أما ما رجحت من عقد مؤتمر في بغداد يجمع بين علماء الطائفتين، ويؤلف بين الفرقتين فهذه فكرة ناضجة، وأصبحت اليوم محتمة. وجدير بكل مسلم أن يبث هذه الدعوة، ويسعى لتحقيق هذه الفكرة فقد آن أن نتفق ونتحد، وآن لنا أن نوحد الصفوف ونجمع الكلمة، وآن لنا أن ننبذ النعرات الطائفية التي كانت السبب الوحيد في شق عصا المسلمين وبث روح الخصام في نفوس الأمة المسلمة التي كان يسودها الاتفاق، ويعلو سماءها الحب والوئام. وحري بنا - ونحن في هذا العصر الذي كثر فيه أعداء الإسلام ومناوئوه - أن نتناسى الماضي ونسدل حجاباً كثيفاً على كل ما من شأنه أن يكدر الجو ويثير العداوة والبغضاء. وإذا فرقتنا المذاهب بالأمس فستجمعنا المصائب اليوم. وإني أتذكر كلمة خالدة في هذا الموضوع لعلامة جبل عامل الأكبر الأمام السيد عبد الحسين شرف الدين نوهت عنها مجلة المنار الإسلامية، فقد قال عن الطائفتين: (فرقتهما السياسة، وستجمعهما السياسة)؛ فالسياسة التي فرقت بينهما طيلة الأعصر الماضية هي هي التي ستجمع بينهم في هذا العصر وتوحد صفوفهم في الأعصر الآتية؛ وإن الواجب ليحتم على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية أن يبث روح الاتفاق الحية، ويسعى جهده في كل ما يرجع إلى صالح الأمة، (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ولكن مما لا شك فيه أن المسؤولية العظمى تلقي على عاتق العلماء والمفكرين من الأمة، فانهم هم القادة، وهم الذين يقدرون الواجب، وهم الذين يحسون بمسيس الحاجة إلى بث روح الاتفاق والألفة، وهم قادرون - بما أوتوا من علم وحكمة وقوة بيان - أن يخضعوا العامة لآرائهم ونظرياتهم؛ وإذا قام العلماء ببث هذه الروح، وقاموا بإيجاد مؤتمر إسلامي عام، فإنما يقومون بواجب تفرضه عليهم حالة الأمة الإسلامية الحاضرة، وتحتمه آي القرآن الكريم ونصوص السنة المقدسة؛ فالقرآن الكريم يحض على الاتفاق، ويحث على الألفة فيقول: (إنما المؤمنون اخوة)، ويقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، ويقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) ويقول (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) إلى غير ما هنالك من الآيات الكريمة التي تحتم على المسلمين أن يتفقوا، وتحذرهم أن يتفرقوا فتذهب ريحهم، ويخسروا عزهم ومجدهم. ونحن لو رجعنا إلى السنة النبوية المقدسة لوجدناها تضرب على هذا الوتر وتلحن أحاديثها الشريفة على هذا التلحين، وتواجه المسلمين بنحو هذا الأسلوب فتقول: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم يد على ما سواهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل) والأحاديث في ذلك كثيرة. وكان صلى الله عليه واله وسلم يبث هذه الروح المباركة ويحض عليها بمختلف التعبير، وكان لإرشاداته (ص) وتعاليمه القيمة دوي عظيم في أنحاء الجزيرة العربية، وأثر في نفوس المسلمين الأثر الذي جعل فيهم روحا وثابة حية كانت هي السبب الوحيد في رقيهم الباهر، وتقدمهم العظيم. فالأمة الإسلامية ما اجتازت تلك المراحل، وما وصلت إلى ما وصلت إليه من المجد والعظمة إلا بالتمسك بالاتفاق والاعتصام بحبله المتين؛ بفضل الاتفاق أصبحت الأمة الإسلامية أمة حية، وبفضل الاتفاق تربعت على دست الحكم وقبضت بيدها الحديدية على أنحاء المعمور. وإذا أردنا أن نسترجع مجدنا القديم ونسترد عزنا السالف لتحتم علينا أن نتقدم للعمل حاملين هذه الروح الوثابة المباركة. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
بغداد - الديوان
محمد صادق الصدر