مجلة الرسالة/العدد 127/مؤتمر القلوب
→ معركة عدوى | مجلة الرسالة - العدد 127 مؤتمر القلوب [[مؤلف:|]] |
عويل الدم ← |
بتاريخ: 09 - 12 - 1935 |
للأستاذ السيد محمد زيارة
سألت نفسي بعد تأمل وتفكير: (ماذا يكون لو أمكن كلُّ إنسان أن ينكمش حتى يختفي في قلبه، وأمكن قلبه أن يتسع حتى يحويه؛ فيظهر للناس عارياً لا يكسوه إلا الشغاف، ويصبح الشخصُ المنطوي على قلب قلباً منطوياً على شخص، وتمشي القلوب وتنتقل، وتدب حيث تحب؟ أتنكشف السرائر، وتسفر الخفايا، وتباح الأسرار؛ ويستطيع كل قلب أن يعرف ما له عند الآخر بغير حاجة إلى رسول بينهما قد يصدق وقد يكذب، ويتبين المرء ما يكنُّه له حبيبه أو صديقه خالياً من الزيف والرياء؟).
وكان سؤالا غريباً جديداً، فحيرني الجواب عليه؛ ثم رأيتني في الرؤيا أجرب هذا. . . فانقبضتْ أطرافي إلى بدني، وانحصر بدني في قلبي، فأصبحت قلباً ومضيت لشؤوني في الحياة؛ ووجدتني مقبلاً عليها بتلهف وشوق كما يقبل على الحرية سجين أطلقوه. فهو يندفع إليها بقوة، ويتقلب على رحبها بشغف، كأنه يريد أن يجنح فيها فيملأها. وهي تتلقاه هاشة باشة، وتتفتح له حيث اتجه، وكأنها تريد أن يمتزج بها فيصير منها.
ثم وجدتُني هنا وهناك طلْقاً موزّعا متحيراً لا أستقر، ولا أعرف كيف استقر، ولا أفهم معنى الاستقرار. وزعمت أنني لم أوجد في الحياة إلا لأتحسس الجمال وأتلمس الحب، وخيَّل إلى وهمي أن الجمال في كل لحظة يناديني، وأن الحب في كل بقعة ينتظرني؛ فجننت بالجمال والحب، وحلَّقتُ في سمائها بأجنحة الخيال حتى كدت أتحطم أو تحطمتُ. . بين شقاء يجرُّني إليه الهجر، وشقاء يجرني إليه الوصال.
ورأيت العيون من حولي تلتهمني بنظرات هي التعجب والاستغراب، وكأنها تتخاطب قائلة: (ما لهذا القلب لا يهدأ؟) حتى كادت تشعرني بأنني وحدي أصفق للجمال وأخفق بالحب. ولكني لم أحفل بالنظرات ولم أهب العيون، وسرت في طريقي كما أنا قلباً مهموماً شديد الخفقان.
ثم رأيتني مدعوَّا إلى مؤتمر دعيتْ إليه القلوب جميعاً؛ ففرحتُ بهذه الدعوة ونشطت إلى الائتمار. وتوافدنا نحن القلوب يسابق بعضنا بعضاً، ويحمل كل منا في أعماقه ما يحمل.
فهذا قلب صاف لا رنق فيه ولا غبار عليه؛ وهذا قلب درِنٌ غلب على بعضه الدرنُ وغ على بعضه النقاء؛ وهذا قلب أسخمُ لم يبق أثر لطبيعته؛ وهذا قلب كبير؛ وهذا قلب صغير.
ووقفتُ أرنو إلى ذلك الحشد الحافل وأستمتع بما فيه من مشاهد غريبة كانت محجوبة عني أو كنت محجوباً عنها؛ وأخذ كلُّ قلب يتطلع إلى القلوب حوله، ويستمتع استمتاعي وكأنه يحس ما أحسه من دهَش يصحبه فرح، ومن رهَب تصحبه لذة.
ورأيت على بعد غير سحيق من مكاني قلباً تقلص أديمُه، وشاه مظهرُه؛ فدلَّنا على باطن غاسق كالليل؛ والقلوب كلها نافرة منه صادفة عنه، كأنه قتاد يشوك من يقربه، أو مخلوق وحشي يلتهم من يلمسه. وهو في مكانه يوزع عليها نظرات ممتعضة ساخطة ملأى بالتمرد والتوعد. فسألتُ: (ما لهذا القلب لا يجد منا صاحباً ولا نجد فيه أهلاً للصحبة؟) فقالوا: هذا قلب رجل لا يعيش إلا ليبثَّ الفساد بين قلوب عارفيه، ولا يستريح حتى يشي بين صديقين متفقين، أو يعكر ما بين حبيبين ناعمين، أو يسيء إلى أحد ما. فتراه يبتسم لهذا، ويداعب ذاك، ويوسوس إلى ذلك؛ حاسباً أن في ابتسامته ودعابته وريائه ستاراً لحقده وخبثه وخسته؛ ولكن هيهات. . فكلنا يعرف ما في جوفه، وكلنا يحتقره وينبذه ويلعنه، وكلنا يود الآن لو يسحقه فيريح الوجود من وجوده.
ورأيت في ناحية أخرى قلباً شفَّ لونه، وأضاءت سحنته، فدلّتنا على دخيلة بيضاء كالشمس، والقلوب كلها - إلا ذلك القلب الداكن وأمثاله - متهافتة عليه، متوددة إليه، تصافحه وتحييه؛ فيصافحها ويلاقيها بتحيات زكيات ملأى بالبر والقناعة - فسألت: (ما لهذا القلب لا يجد منا قالياً ولا نجد منه داعياً للقلى؟) فقالوا: (هذا قلب رجل تقي كريم يعرف الله ويخشاه، نصب نفسه لهداية الناس، وقضى أيامه يجاهد الرذيلة ليحي الفضيلة، ويكره الشر، ويحب الخير. فطالما سعى ليوفق بين صديقين مختلفين، أو يصلح ما بين حبيبين تاعسين، أو يحسن إلى أحدٍ ما؛ فتراه يرشد هذا، ويعلم ذاك، وينتزع الغواية من ذلك، صادقاً في كل ما قال وكل ما فعل، مصلحاً أينما حل. فكلنا يعرف فضله ويقدره ويحترمه ويود لو يرفعه فيجعله في السماء.
ولفتَ بصري قلبٌ غلا دمه، وتصاعد البخار من فتحاته، وكاد يندلع اللهب من جنباته؛ حتى خلتُه تنُّوراً تنصهر فيه جدرانه جزءاً فجزءاً، ويشتد أزيزه كلما استعر جوفه. يروح ويغدو بين القلوب هائجاً كالمشرّد، حائراً كالنصال، لا تفتر قواه ولا ينقطع خفوقه. فتساءلنا عما به فوجدناه قلب محب فارقه حبيبه فبرّح به الشوق، وأضناه الألم؛ فهو ظمآن لهفان يبحث عنه بيننا علّه يلقاه فينقع اللقاء غلته، ويبرد لهفته. فقلت: آه!! ما أعظم سلطان الحب. . آمنت بأن في الحياة قلوباً تحار حيرتي وتكابد ما أكابد.
وكان بين القلوب قلبٌ خالٍ كالبيضة إذا أفرخت، سافر كالمرأة إذا تهتكت، باهت كالشمس إذا تنقبتْ بالسحاب. فكان أشبه شيء بالإسفنجة؛ وأعجبني منظره الفاتر الخالي من كل قرائن الحياة، لأنه شاذ بفتوره وخلوه منها، وأخذتُ أراقبه مليا لأقف على سره لو كان لمثل هذا القلب سر؛ فوجدته إمعة يظل ساكنا كالنائم فلا يتحرك حتى يحركه غيره، ولا يتوجه حتى يوجهه غيره، ولا يعمل إلا ما يمليه عليه غيره.
يدنو منه قلب من تلك القلوب السوداء هامساً موسوسا فلا يلبث حتى يسودّ ويتشكل بشكله، ثم يدنو منه قلب من تلك القلوب البيضاء الناصعة محدثاً مبشراً، فلا يلبث حتى يبيضّ ويتشكل بشكله، وهكذا هو في كل أحواله مقود لا إرادة له ولا صفة.
فسألتُ عنه فقيل لي: هذا قلب شاب ساذج أبله مغرور بنفسه، مخدوع بغروره، لم ينكبه الدهر، ولم تكرثه العوادي؛ فعاش كما تراه سليماً من الشر ومن الخير، بعيداً عن الحزن وعن الفرح، وحسب أنه عاش كذلك برغبته وقدرته، وأنه استطاع أن يهزأ بالأحداث لأنه فوق متناولها؛ ولم يعرف أن الله خلقه ضعيفاً فأنكره الدهر، وهزأت بوجوده الأحداث.
ووقع بصري على قلب تراه واقفاً فلا تحسبه واقفاً لدأبه على الدق والتوثب، ولا تفهم من خفقانه المتواصل معنى خفقان القلوب. وإنما تفهم معنى الجبروت والصولة والعربدة!! ينظر إلينا شزرا ويتطلع إلى محيطنا باستخفاف؛ ثم يصرف عنا بصره ويتطلع إلى أبعد من محيطنا باستخفاف؛ كأنه لا يشعر بنا وكأنه يعتبر الكون أضيق من أن يَسَع قوته وعظمته، فلا يروح ولا يغدو إلا في تيه وخيلاء، ولا يقف إلا وقفة المتمرد المتحفز، وهو مع هذا أبكم، أصم، أعمى، كافر، لا يؤمن بالرحمة، قاس لا يعرف الآلام؛ فهو أشبه شئ بكرة من الحديد.
قلت: قلب من هذا القلب القوي المتكبر؟ قالوا: قلب رجل شجاع جبار لا يهاب الصعاب، ولا يرضى الاستكانة، ولا يعرف التسامح، مفطور على الكبر والعظمة واستصغار الكبائر؛ واستضعاف الأقوياء، واستعباد الضعفاء. فهو يعتقد أنه مخلوق للغلبة والانتصار.
ونظرت على يميني فرأيت قلباً استحق مني أن أطيل النظر إليه لما هو فيه من هم وكآبة، وقطعت فترة طويلة من الوقت شاخصاً إليه، متأملاً مشفقاً وأنا أحس أنه بائس وأن بيني وبينه صلة من البؤس مهما يكن بؤسه ثم ملت إليه وسألته: ماذا بك أيها القلب الحزين الباكي، ومالي أراك ساكناً ساكناً. . . تبدو في سكونك كاليائس المقشعر من يأسه، وكأني بك تستكثر على نفسك أن تعيش لأنك برم بالعيش!! إنك منا ولكنك غريب عنا؛ لا تخالطنا كما نتخالط ولا تحادثنا كما نتحادث؛ فما رأيتك منذ رأيتك إلا زافراً تكبت الزفرات، أو مستعبراً تخبأ العبرات، وأحسب أنك نكبتَ في حب فعشت في ذكرياته، وأن تلك الذكريات التي وصلت ما بينك وبين الماضي قطعت ما بينك وبين الحاضر: فماذا بك، وقلب من أنت؟
فانتفخ، ثم صعدت من فوهته زفرة ملتهبة، ثم صمت قليلاً، ثم رنا إليّ طويلاً، ثم قال: دعني لمأساتي فاللهب لا يحرق إلا من ألقي فيه.
قلت: ولكني أريد أن أعرف مأساتك؛ فعسى أن أعينك أو أواسيك أو أتوجع لك.
فصعدت من فوهته زفرة أخرى وقال: أواه. . . هذا شعور جديد في الحياة أو جديد في حياتي أنا فقط، وهذه كلمات لم أسمع مثلها منذ حين. فيالك من قلب طيب!
إن مأساتي هي أنني بحياتي مأساة في الحياة!! لقد كنت محباً واليوم قد مات الحب، بل أنا محب؛ كنت هانئاً، واليوم قد مات الهناء. . . بالأمس كنت قلب فتاة عذراء مؤمنة، واليوم أنا قلب امرأة متخالعة متماجنة. . . امرأة مومس أقدمت على الدعارة مكرهة، ثم مستسلمة، ثم راضية،. . . امرأة ساقطة تبيع عرضها في سوق الفجور (الرسمي) كل يوم لكل من يدفع الثمن. . .
مسكينة هذه البائسة المجروحة التي تحملني بين حناياها بائساً مجروحاً!! إنها تحاول كثيراً أن تسكتني وتخفيني، ولو استطاعت لقطعت ما بيني وبينها من شؤون وصلات، لتخلو لشؤون وصلات ذلك العالم الداعر الكافر الذي تعيش فيه بين ذبّاحي الإنسانية وهدّامي البشرية، وأنا في صدرها ألتاع وأتألم وأبكي وليست لي دموع إلا الدماء أستوردها من بدنها فيهزل قوامها، وهزال قوامها يذبل شبابها، وذبول شبابها يضيع جمالها، وجمالها هو حياتها الفانية التي لا خير فيها.
الرجال يحدثونها دائماً عن مواضع الفتنة ومواطئ اللذات فيها، فلا تسمع رجلاً واحداً يحدثها عن مواطن الحسرة ومدافن الذكريات في أعماق نفسها، ويسألونها كل يوم عن شهوة بعد شهوة، ولا يسألونها: أي حزن دخيل ثقيل تحملين، وكيف تتعذبين!! إنها تضاحكهم وتداعبهم ترويجاً لخلاعتها بينما تباكيني وتناجيني تفريجاً لكآبتي، وهي في ذلك مضطرة إلى التظاهر بأنها امرأة بلا قلب ولا ضمير، وإلا اتهموها بأنها تحمل قلباً حياً وضميراً مستيقظاً، وعدوها بذلك خائنة لحرفتها غير حافظة لنعمتها.
لقد حبستْني وحرَّمتْ علي أن يسمعني أو يشعر بي أحد، وما جئت إلى هنا إلا خلسة منها. فهي الآن في أحط أوقاتها بين أحط الرجال.
ولكني لا ألومها فأنا الجاني الأول عليها،. . . لقد قادني الحب فقدتها أنا إلى معمعة العواطف، ثم قادتها العواطف المطلقة إلى مغانم الشهوات، ثم قادتها الشهوات الغريرة إلى مساقط الفساد، ثم إلى الهاوية التي لا مقيل لها منها إلا الموت.
وبكى وبكيت له ورحت أواسيه بالقول لأن مأساته أكبر من أن أعالجها بالعمل.
(البقية في العدد لقادم)
السيد محمد زيادة