الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 127/النقد

مجلة الرسالة/العدد 127/النقد

مجلة الرسالة - العدد 127
النقد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 12 - 1935

2 - تاريخ الإسلام السياسي

تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن

بعض مآخذ تاريخية وجغرافية

لأستاذ كبير

أتيت في كلمتي السابقة على قليل من المآخذ التاريخية التي تورط فيها مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) وقد لحظ بعض الذين قرأوها أنه كان الأفضل ألا أورد هذه المآخذ مسرودة على نحو ما فعلت بل أن أوردها مقرونة بأسبابها الجوهرية. وأجيب عن هذه الملحوظة التي لها وجاهتها العامة بأن من المفيد في نقد كتب التاريخ أن ينصب النقد أولاً على الوقائع مجردة. فإن التاريخ من الناحية التحليلية البحتة يقوم على الوقائع التاريخية التي هي مادته الأولية. وبمقدار تزود المؤرخ من هذه المادة الأولية وتمكنه منها إحاطةً، وتقويماً، وفهماً، تكون متانة أحكامه التي يستنبطها وافتراضاته التي يذهب إليها، والعكس بالعكس. وإذاً فلا بأس أن أمضي في كلمتي هذه في إتمام ما أخذت فيه في كلمتي السابقة من الإتيان على أجسم ما في الكتاب من المآخذ التاريخية، مقفياً على أثر ذلك بإيراد شيء مما وقع فيه المؤلف من الأغلاط الجغرافية، والتاريخ والجغرافيا صنوان مؤتلفان، وهما ظرفا الزمان والمكان لما يسمى بوقائع التاريخ.

قال المؤلف في ص 340 في معرض الكلام على الوقعة البحرية العظيمة المعروفة في كتب العرب بذات الصواري: (وفي سنة 31هـ نشب القتال بين ابن أبي سرح وبين الروم تحت قيادة ملكهم قسطنطين في البحر الأبيض المتوسط، على مقربة من الإسكندرية، وكان النصر للعرب في هذه الحرب، وقد عرفت هذه الموقعة بموقعة السواري أو ذات السواري) والمؤلف يخطئ هنا من حيث زمان الوقعة ومكانها، فأما من حيث الزمان فالوقعة قد ذكر في المصادر العربية أنها كانت سنة 31هـ ولكن هناك رواية أخرى تجعلها في عام 34هـ، وقد ظهر من المصادر اليونانية أنها تؤيد الرواية الثانية، وإذاً يتعين الأخذ بها واطراح الأخرى. وأما من حيث مكان الوقعة فالمصادر اليونانية تعينه فتجعله قريباً م ساحل آسيا الصغرى الجنوبي لا قريباً من إسكندرية مصر (أنظر تاريخ العصور الوسطى لكمبردج ج2 ص 353) والمؤلف لا شك يتابع في كلامه هنا السير ويليم ميور الذي يأخذ عن المؤرخ الإنجليزي جبون، وكلا هذين المؤرخين أصبح قديماً ولا يصح التعويل عليه بصفة مطلقة.

جاء في ص 370 عن وقعة الجمل المشهورة (ونشب القتال وعائشة راكبة في هودجها على جمل يسمى عسكرا واقتتل الناس حوله سبعة أيام حتى صار كالقنفذ من النشاب) والصحيح أن وقعة الجمل لم تدم أكثر من سحابة يوم واحد. فإن السبئية من أصحاب علي أجمعوا إنشاب القتال حتى لا يتم صلح بين الفريقين. وقد حملوا بالفعل ليلاً على جيش عائشة وما تعالى النهار حتى كان الفريقان قد اشتبكا في وقعة دامية ولم يكد النهار ينصرم حتى كان جمل عائشة قد عقر وأخذت عائشة وانتهت الوقعة. ولعمري إن جيشاً يرشق كله أو بعضه بالسهام جملاً ساعة واحدة لحري بأن يحيل الجمل كالقنفذ، ولا يقتضي الأمر سبعة أيام!

ومن الخطأ الجسيم ما وقع فيه المؤلف عندما أراد أن يبدي رأيه في خروج عائشة وطلحة والزبير على علي، فهو يقول في ص 372 (نرى أنه لا مبرر لعمل طلحة والزبير وعائشة ما دام للأمة إمام ينفذ الأحكام ويقيم الحدود ولاسيما وقد وعدهم علي ابن أبي طالب بالنظر في أمر عثمان والبحث عن قاتليه والقصاص منهم عندما تستقر الأمور. على أننا نرى من جهة أخرى أن مجرد قبول علي في جيشه أعوان ابن سبأ الذين قتلوا عثمان في الوقت الذي يطالب فيه بدمه كاف لأن تحوم الظنون حوله وتبرر اتهامه بالاشتراك في دمه) فالمؤلف ينظر هنا إلى كل من الفريقين من وجهة نظر الآخر، وقد خرج من الموضوع ولا رأي له على التحقيق. والوضع الصحيح للمسألة هو ألا مبرر مطلقاً لخروج عائشة وصاحبيها، وأما علي فلعل أصدق وصف له في الفتن التي اضطر إلى خوض غمارها أنه كان على إخلاصه مغلوباً على أمره.

ويقول المؤلف في هامش ص 450 تعليقاً على كلامه على ضرب الحجاج الكعبة بالمجانيق: (لم يرد عبد الملك بن مروان أن يحط من شأن الكعبة وإنما اضطر إلى قتال ابن الزبير فحدث ما حدث من غير قصد. وذلك أن الحجاج لما نصب المجانيق على الكعبة جعل هدفه هذه الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة، إذ كان الأمويون يعتبرون ذلك بدعاً في الدين) وهذا تخيل عجيب للحال، فإن مجرد استحلال القتال في الحرم فضلاً عن رمي الكعبة بالمجانيق عمل ينطوي في نفسه على حط كثير من شأن الأمكنة المقدسة من غير نزاع. على أن الأمر كان أمر سياسة قبل كل شيء وبنو أمية كانوا إذا تعارضت المصلحة السياسية وأي اعتبار آخر رجحوا جانب المصلحة السياسية كائناً ما كان ذلك الاعتبار الآخر، وتاريخهم كله يشهد بذلك. وقد يكون من المضحك أن يقال إن الحجاج جعل الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفاً لمجانيقه! أفما كان من الممكن الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها ثم تنقض الكعبة وتبني على أسسها القديمة؟ ثم هل كانت هذه الزيادة متميزة عن سائر بنية الكعبة بحيث يمكن نقضها دون هدم الكعبة؟ كلا ثم كلا! لقد كان الهدف الحقيقي للمجانيق هو ابن الزبير نفسه، ولما جعل ابن الزبير الكعبة حائلاً بينه وبين المجانيق ضربت الكعبة.

ويقول المؤلف في ص 471 وقد استعرض أشهر فرق الخوارج في العصر الأموي: (وإن الناظر إلى مبادئهم ليجد أنهم اشتطوا جميعاً في الحكم على مخالفيهم حتى ساووا بينهم وبين الكفار عبدة الأوثان) وهذا الحكم على إطلاقه غير صحيح فهو إن صدق على بعض فرق الخوارج كالأزارقة لا يصدق على بعضها الآخر كالأباضية.

ومن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المؤلف متابعته مؤرخاً متوسط المكانة التاريخية هو السيد أمير علي الهندي في الكلام على نظام الإمارة على البلدان في العصر الأموي. يقول المؤلف نقلاً عن هذا المؤرخ: (إن هناك نقصاً قد تطرق إلى النظام الإداري في عهد بني أمية وجر إلى أسوأ العواقب فيما بعد. وذلك أنه كان يفرض على ولاة الأقاليم الإقامة في حواضر ولاياتهم. أما في عهد الأمويين فقد أصبحت ولاية الولايات تسند إلى بعض أفراد البيت المالك وإلى كبار رجال البلاط فكانوا يبقون في دمشق ويعينون من قبلهم رجالاً يقومون بحكم الولايات نيابة عنهم. وكان من أهم أغراض هؤلاء الإثراء على حساب بيت المال، وإرضاء هؤلاء الولاة بما كانوا يدرونه عليهم من الأموال) ونبادر إلى القول بأن هذا النقل غير دقيق فالسيد أمير يؤرخ النقص الذي تطرق إلى النظام الإداري من عهد يزيد بن عبد الملك بن مروان أي من عام 101هـ في حين أن كلام الناقل يجعل تطرق النقص منسحباً على العصر الأموي كله.

ومع ذلك فكلام السيد أمير علي لا ينطبق على الواقع، فإنه إذا كانت الولاية على الأمصار قد أسندت في بعض الأحوال إلى أمراء من بني أمية كمسلمة ومروان بن محمد فإن ذلك إنما كان لما عرفوا به من الكفاية الممتازة لا لقرابتهم من الخلفاء. ثم إنه لم يكن لبني أمية بلاط بالمعنى الصحيح يولي كبار رجاله على الأمصار كما أن الأمراء لم يكونوا يقيمون بالعاصمة ويستنيبوا غيرهم على الأمصار، إنما كانوا يقيمون في حواضر الأقاليم نفسها. هكذا كان خالد القسري أمير العراق، ونصر بن سيار أمير خراسان وحنظلة بن صفوان أمير مصر. وإذا انتفت الاستنابة فلا نيابة ولا إثراء ولا رشوة. ولا شك أن السيد أمير علي كان يفكر وهو يكتب هذا الكلام في نظام الولاية على الأقاليم في العصر العباسي الثاني عندما غلب الأتراك على الدولة العباسية، وهو خلط لا مبرر له.

ويتكلم المؤلف (ص 576) على نظام (العدول) في معرض الكلام على نظام القضاء في عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية فيقول (وقد دعت سنة التقدم والارتقاء إلى اتخاذ الشهود (المحلفين) حين فشت شهادة الزور، إذ جرت العادة أن تقبل شهادة من يتقدم لأدائها، سواء أكان ممن عرف بالخير أو بالشر. فقضى النظام الجديد بتعيين شهود عدول، عرفوا بحسن السمعة والفقه، فصاروا من هيئة المحكمة، يعمل برأيهم القاضي فيما له علاقة بالمتقاضيين.

وكان من اختصاصاتهم أيضاً الشهادة على ما يصدره القاضي من الأحكام وأنه غير مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية) لاشك أن المؤلف تناول هذا الموضوع لاعتقاده أن نظام العدول وجد في العصر الذي اتخذه موضوعاً لكتابه. وهو اعتقاد خطأ فأول ما سمع عن نظام العدول إنما كان زمن الرشيد أي في الدولة العباسية (أنظر كتاب تاريخ القضاء في الإسلام ص 132) ثم إن كلام المؤلف لا يجلو هذا النظام على حقيقته وفيه تخليط كثير (راجع الكتاب المذكور).

ويقول المؤلف في ص 627 وهو يتكلم على الجامع الأموي بدمشق: (وقد تأنق الوليد في بناء هذا المسجد حتى قيل أنه أنفق على عمارته خراج دولته سبع سنين وما ذلك إلا ليتقرب إلى الله بهذا العمل الديني الجليل). والمؤلف ينقل هنا عبارة المستشرق فون كريمر، وفون كريمر يعتمد على ابن الفقيه. ووجه المبالغة غير المعقولة في تقدير نفقات الجامع ظاهر. وكان ينبغي العدول عن رواية ابن الفقيه والأخذ برواية أخرى متواترة قال بها الأصطخري وابن حوقل والمقدسي. ومؤداها أن النفقة استغرقت خراج الشام وحده سبع سنوات.

وبعد فلو أردنا استقصاء الأخلاط التاريخية الواردة في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) لطال الأمر. فنكتفي بهذا القدر. ونختم كلمتنا اليوم بإيراد أغلاط جغرافية جرى بها قلم المؤلف.

فبلدة (صحار) تكتب الصاد المهملة لا بالسين كما كتبت على خريطة جزيرة العرب الواردة في أول الكتاب، وبلدة عينتاب تكتب بالياء المثناة بعد العين (أنظر نفس الخريطة)، وإذا أريد تعيين وادي اوطاس فلا يقال إنه بين مكة والبصرة (ص 31) فالتعيين على هذا النحو وعدمه سواء. ولا يقال في تحديد ملك الغساسنة (إنه كان حول دمشق وتدمر. وكانوا يجولون في الجهات الجنوبية لدمشق وخاصة لبنان وفلسطين والبلقاء وحوران) فماذا بقي للروم من الشام (ص 56). ولا يقال أن الطبيعة وهبت نهر اليرموك أسراراً وألغازاً (ص 289)، وإلا فما تلك الألغاز والأسرار؟ ومن أقبح الخطأ أن يقال ص 335 (وقد أنشأ معاوية أسطولاً حارب البيزنطيين حتى وصل إلى عمورية في آسيا الصغرى كما استولى على جزيرتي قبرص ورودس) فعمورية لا تقع على البحر ولكنها في صميم آسيا الصغرى. كما أن هرقلة ليست واقعة على البحر الأسود ولكنها في شرقي آسيا الصغرى مما يلي منطقة الثغور الإسلامية. (الخريطة ص 274) ثم أن خريطة الأندلس ملأى بالخطأ والتحريف.

مؤرخ