مجلة الرسالة/العدد 126/من ذكريات لبنان
→ الصقالبة في الرواية العربية | مجلة الرسالة - العدد 126 من ذكريات لبنان [[مؤلف:|]] |
قصة المكروب ← |
بتاريخ: 02 - 12 - 1935 |
الحذاء الذهبي
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(استيقظت!)
وكانت قد أغفت، وهي قاعدة على دكة تحت شجرة صنوبر، وذراعها على سور النافورة، ويسراها على حجرها، ثم فركت عينيها فقلت:
(والآن أرجو أن يلهمها الله ألا تغير جلستها، فإنها هكذا أحلى!)
فحطت ساقا عن ساق، وتناولت حقيبتها الصغيرة وفتحتها ونظرت في المرآة، ثم أخرجت منديلا، وجعلت تلمس به وجهها في مواضع فقلت:
(ولها جيد جميل أيضا - وأناملها مخضبة. . . الآن صرت لا أرى عيبا في قول من يقول إن هذا من دم العشاق!)
فابتسمت وقالت - كأنها تحدث نفسها - (ماذا يقول هذا الرجل؟)
فقلت، وأنا أنكث الأرض بعود صغير في يدي: (إنه يسأل: أتراك زوجته؟)
فزوت ما بين عينيها وقالت: (زوجته؟ زوجة من؟)
قلت: (زوجتي أنا!)
فصاحت: (إيه؟)
قلت: (زوجتي. . . تعرفين الكلمة؟. . يتهجونها هنا بالزاي والواو والجيم، أتهجاها أنا بالحاء والباء و. . .)
وكانت تنظر إلي مبهوتة، ثم ابتسمت وسألتني:
(هل تعني أنك لا تستطيع أن تعرف زوجتك حين تراها؟)
فأهملت السؤال وقلت: وأنا أشير بالعود الذي في يدي:
(إنك هي. . . أو أنت عيناها، وجيدها وساقاها. . .)
فخيل إليها أنها فهمت وقالت: (أوووه! ألك زمان طويل لم ترها؟)
قلت: (طويل جدا. . . ربع ساعة!)
فصدمها هذا فقطبت وقالت: (إنك تسخر مني) ومدت يدها إلى الحقيبة فقلت: (لا تعجلي! ألم أقل إنك هكذا أحلى؟ وعلى ذكر ذلك أسألك: كيف يمكن أن تأكلي بهذا الفم الصغير؟)
فقالت: (إني ذاهبة. . . اسمح لي)
قلت: (إنها ذاهبة؟؟ هل سمع أحد بمثل هذا؟ ليت شعري كيف تستطيع أن تمشي بمثل هذا الحذاء الدقيق؟ ثم تجيء زوجتي فتوسعني تأنيبا!)
وكانت تهم بالقيام، فترددت، ثم سألتني:
(من أنت؟ أني أريد أن أعرف)
فقلت، وعيني إلى الأرض: (إنها تسأل؟ بداية حسنة على كل حال - خطوة في الطريق القويم - ومتى رأيت امرأة تعنى بأن تسأل من يكون الرجل، فاعلم بأن الأمل في. . . .)
فانتفضت ئمة وقالت وهي عابسة: (سأذهب)
ولكنها لم تكد تخطو خطوة واحدة حتى صرخت وارتدت فانحطت على الدكة، وانحنت فمدت يديها إلى قدمها اليمنى، فأسرعت إليها أسألها ما الخبر، وكانت قد خلعت الحذاء ودست فيه إصبعين تتحسس بهما، فقالت: (مسمار! ماذا أصنع؟)
فأخذت الحذاء ونظرت فيه ثم قلت: (من كان يتصور أن هذا الحذاء الصغير يمكن أن يسكنه مسمار ضخم كهذا؟ والآن هل يمكن أن يكون في حقيبتك عتلة أو معول أو فأس أو أي شيء أصغر أو أكبر ندق به هذا المسمار الملعون؟)
فقالت وهي تضحك: (لا تمزح من فضلك!)
قلت: (هذا أحسن - نعم يجب أن نضحك إذا لم نستطع أن نفعل ما هو خير من ذلك؟)
فقالت: (ولكن ألا تستطيع شيئا؟)
وتلفتت وقلت، أستطيع أن أضع النعل على وجهي، وأقبض على رأس المسمار بأسناني، وأشد. . . هكذا)
فصاحت بي وهي تتلوى من الضحك (أرجو. . أرجو. .)
فقلت: (أعرف ما تريدين بغير حاجة إلى رجاء. . . أن أحملك إلى حيث تقصدين)
فغاض الابتسام، واعتدلت في جلستها وقالت: (أتظن أني أسمح لك بذلك؟ مستحيل!)
قلت: (ولما لا؟ إنك أخف من الريشة، وفي وسعي - بعد قليل من التدريب - أن أظهر بك على المسرح، وأمشي بك على الحبل، محمولة على أسناني)
فضحكت ثم قالت: (إنك فظيع!)
قلت: (بالعكس. . . إني لطيف جدا. . .)
فقاطعتني ضاحكة وقالت: (دع لطفك الآن. . .)
- قبل أن تعترفي به؟ هذا مطلب بعيد!
- وقل لي ما العمل؟
فقلت: (العمل أن تجلسي حيث أنت - وإن كنت سأحرم منظرك الفاتن وأعود إلى (القهوة) ثم أكر إليك بالحذاء في يدي - لا في رجلي - بعد أن نطرد هذا الطفيلي)
وانحدرت إلى حيث (القهوة) وعثرت مرتين أو ثلاثا، فآمنت أن العجلة من الشيطان، ولكني مع ذلك، وعلى الرغم مما أصابني، ظللت أعدو كأن ورائي ألف كلب من كلاب الصيد، وحرت بين أشجار القهوة فوقفت أنادي (يا حاج الياس! يا حاج الياس!)
فأقبل علي اثنان من أعوانه؛ فأشرت إليهم بالحذاء وطلبت شيئا أخرج به المسمار
وكانت زوجتي - مع أولادنا - على مقربة مني، وكانت تراني ولا أراها، فقالت: (ما هذا؟)
فدرت حتى واجهتها وقلت، وأنا أمشي إليها:
(هذا؟ آه! هذا حذاء جميل. . . . . .)
فدهشت وسألتني: (من أين جئت به؟ أين وجدته؟)
قلت: (لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم. . . صدق الله العظيم. . . خذي جربيه! اخلعي هذا. . .)
وانتزعت حذاءها الأيمن، وذهبت أعدو به
(ولكن هذا ليس حذائي؟)
قلت: (يا فتاتي المتبطرة. . هو حذاء والسلام. . تستطيعين أن تلبسيه وتمشي به وتقطعي أربع مائة متر، ثم تخلعيه لا شاكرة ولا مشكورة، ثم تلبسي حذاءك الجميل، وتقعدي به كما أنت الآن. . . رشيقة أنيقة. . . فاتنة الجيد. . . ساحرة العينين. . . وتروحي تهذري مع زوجتي التي تصب على رأسي الآن أحر اللعنات. . . ومن يدري؟ إذ لم تعجلي قبل أن يطغي بها الحنق والسخط، فقد تلقي بحذائك في البركة. . . إن النساء هكذا. . . حذاؤك جميل، ولكن كل امرأة تعتقد أن حذاءها هي أجمل وأنفس. . . هيا بنا!)
فوقفت وهي تقول: (ولكني لا أستطيع أن أمشي به. . . واسع. . .)
قلت: (لا تذمي زوجتي - أعني قدمها، فأنها جميلة. . . ثم إن المشي في الحذاء واسع خير من المشي في حذاء في جوفه مسمار. . . تعالي بالله قبل أن يغرق في البركة)
فتوقفت وصوبت عينها إلى قدميها وقالت: (ولكنه فضي وحذائي ذهبي؟)
قلت: (قوس قزح. . . تعالي. . . أترانا في معرض أزياء هنا؟ نحن في الجنة المغروسة على جبال (الشوير) ولا أحد معنا ولا ثالث لنا إلا. . . . إلا الهوى. . . كآدم وحواء. . . وعلى ذكر ذلك أظن أن حواء كانت تلف ذراعها بذراع آدم إذ يسيران في الجنة)
وقالت زوجتي ونحن مقبلان عليها:
(لم أر مثلك أبدا في الدنيا!)
قلت: (صدقت يا امرأة! وأين تجدين في هذه الدنيا نظيري)
قالت محتجة: (تخطف حذائي وترمي إلي هذا الـ. . .)
وأشارت بازدراء إلى حذاء الفتاة، وكان ملقى على الأرض
فقلت: (هس! إن اللص معي، أعني المسئولة عن الجريمة والمحرضة على ارتكابها)
فصاحت الفتاة وضربت بكفها على صدرها: (أنا؟)
ونظرت زوجتي إلى قدمي الفتاة ثم نهضت وأقبلت عليها وقالت، وهي تمد إليها يديها:
(أوه! لم أكن أعرف؟ ولكن كيف استطعت أن تمشي فيه؟ أنه واسع. . . ورجلك أصغر. . . وأجمل أيضا؟)
فالتفت إلى الفتاة وقلت: (أتسمعين يا هذه؟ إنها تقر لرجلك بالمزية! وجيدها؟ أليس ساحرا يا امرأة؟ ألست معذورا إذا اشتهيت أن آكله؟ وعيناها؟ وهذا الفم العجيب الذي لا أدري كيف يتسع للكلام، وأن كان يتسع جدا الذم حذائك يا امرأة!)
فريعت الفتاة وصاحت: (أنا ذممته؟ حرام عليك!)
فقلت: نعم. . . جدا. . . قلت أنه واسع عظيم، وأنه يذكرك بالباخرة تايتانك، وأنه يسع جيشا عرمرما من الأقدام الكبيرة الغليظة، وأنه. . .
وكانت زوجتي تضحك، أما الفتاة فقد خيل إلي أنها ستسقط على الأرض
وقالت زوجتي: (فظيع! ألا تقفل هذه البوابة! لا تعبأي به يا حبيبتي ولا تلفتي إليه. . . أنه هكذا دائما. . . والآن خذي هذا المسمار واحتفظي به للذكرى)
فقلت: (وأنا؟ ما أجري على التعب؟ لقد قطعت كيلو مترا في الذهاب والإياب - قطعته عدوا. . . وهذه الأحذية على راحتي الطاهرة. . . .)
فقالت زوجتي: (جزاؤك أن تقعد مع الأولاد، ونذهب نحن نتمشى. . . .)
قلت: (هذا جزاء سنمار. . لا بأس! مجنون من يصنع معروفا في بنت من بنات حواء. . . .)
فقالت زوجتي: (هذا رأيك؟ إذن لن أدعوها إلى العشاء معنا!)
فصحت: (لا لا لا. . . إنما أعني بنت من بنات آدم)
فضحكت الفتاة، ورمتني زوجتي بفستقة. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني