مجلة الرسالة/العدد 126/معركة عدوى
→ أندلسيات: | مجلة الرسالة - العدد 126 معركة عدوى [[مؤلف:|]] |
المشكلة. . .! ← |
بتاريخ: 02 - 12 - 1935 |
5 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
أسباب الحرب
لقد ظهر لنا من المباحث السابقة أن الطليان اعتبروا الحبشة مستعمرة طليانية، وحملوا الدول الأوربية على الاعتراف بذلك بعد نشرهم المعاهدة وذيولها، واستفادوا من حاجة البريطانيين إليهم فتقدموا إلى كاسيلا واستولوا قبل ذلك على عدوى
ومع أن منليك كان يتظاهر بعدائهم عند منحه امتياز السكة الحديدية للفرنسيين وإذابته العملة النقدية التي ضربها الطليان في بلادهم لم يتمكن الطليان من التضييق عليه لأنهم كانوا مكلفين بمساعدة البريطانيين في قتالهم المهدي، ولم يرض البريطانيون بان يترك الطليان جبهة السودان ويتقدموا بقواتهم على الأحباش
والحقيقة أن السياسة البريطانية من حيث أهدافها العامة لم ترغب البتة في توسع نفوذ الطليان في الحبشة وتوطيد كلمتهم فيها لأنها كانت ترمي إلى احتلال مصر والسودان والمحافظة عليهما بترك حراسة جبال الحبشة بيد أهل الأحباش
أما النجاشي منليك فكان يرمي إلى توحيد المملكة وتقويتها ثم إعلان استقلالها للعالم. ولا شك في أن رغبة الطليان في توطيد نفوذهم في الحبشة وسعي نجاشي الحبشة لاستقلال البلاد أديا حتما إلى الاختلاف بين إيطاليا والحبشة برغم المعاهدة وذيولها
وسترى كيف حدث هذا الاختلاف فأدى إلى الحرب بينهما. والحقيقة هي أن بريطانيا لم تكد تقض على حركة المهدي فتبقي إيطاليا حرة في العمل إلا وشرع الطليان بحشد قواتهم في مستعمرة أريترة للتوغل في بلاد الحبشة
ولما تأكد منليك من قدرة جيشه البالغ عدده زهاء 145000 أعلن استقلال الحبشة إلى جميع الدول. ولمجاملة إيطاليا طلبت ألمانيا وفرنسا من النجاشي أن يرسل هذا البلاغ بواسطة إيطاليا
فبلغ منليك ملك إيطاليا أن المادة السابعة عشرة من معاهدة أوكسالي لا ترغمه على توسيط إيطاليا في جميع علاقته بالدول الأوربية، والنص الحبشي من المعاهدة صريح في هذا الباب، فهو يخول للنجاشي حق طلب التوسيط إذا أراد ذلك. لذلك رجا من ملك إيطاليا أن يخبر الدول الأوربية بذلك لكي لا يحدث سوء تفاهم في المستقبل
والواقع أن المعاهدة كانت مكتوبة باللغة الأمحرية والمادة السابعة عشرة منها تنص على ما يلي: (جلالة إمبراطور الحبشة مختار في استخدام الوكلاء الطليان). أما الطليان فلما ترجموا المعاهدة إلى لغتهم وضعوا كلمة (الإجبار) بدلا من كلمة (الاختيار) فجاء النص الطلياني كما يلي: (جلالة إمبراطور الحبشة مكلف باستخدام الوكلاء الطليان)
فانتبه الساسة الطليان إلى خطئهم، فلما تيقنوا أن القلم لم يجد نفعا في الحصول على رغبتهم في بلاد الحبشة قرروا استخدام السيف، مع أن منليك لم يرغب في الحرب في تثبيت علاقاته بإيطاليا. فتظاهر الفرنسيون بالولاء للطليان، بينما كانوا في الخفاء يؤيدون النجاشي، لأن توسع نفوذ الطليان في بلاد الحبشة يخالف مرماهم. وكان الحكم الفرنسي في المستعمرة الصومالية همزة الوصل بين الحكومة الفرنسية والحكومة الحبشية، أما الحكومة الروسية فلم تعترف بالمعاهدة وكانت تساعد الحبشة بإرسال الضباط وأصحاب المهن والرهبان والسلاح إليهم
فرأى رئيس الحكومة الطليانية (كريسبي) إرسال رجل محنك إلى بلاط النجاشي عسى أن يقنعه ويزيل الخلاف. فأرسل الكونت (انطونلي) إلا أن هذا لم يتمكن (رغم ذلاقة لسانه ووعيده) من إقناع منليك الذي كان جوابه للوزير الطلياني ما يلي:
(ما دام قد حدث غلط في نص المادة السابعة عشرة فالأولى أن نلغيها تماما، ولنتذاكر من جديد على نص المعاهدة؛ ثم إن بلادي تحتاج إلى منفذ إلى البحر فلنقرر هذا أيضا)
ولم يغير منليك رأيه ولم يحد عن فكره. فكان في جميع مذاكراته مع الوزير المفوض يؤيد هذا الطلب عينه. وأخيرا بلغ الحكومة أن المادة السابعة عشرة من المعاهدة ملغاة. وفي الوقت عينه أعاد الأربعة ملايين فرنك إليها. وكان من نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بين إيطاليا والحبشة وانتهت إلى الحرب
ساحة الحركات
تقرب سلسة الجبال من مصوع وتسيطر على سهلها الضيق وفي امتدادها إلى الشمال تكون موازية للشاطئ. أما في امتدادها إلى الجنوب فتبعد عنه، وتتكون منها الصحراء الدنا التي تشح المياه فيها، وهذه الصحراء وعرة ذات مفازات ووديان ورواب
وهذه السلسلة ذاتها تتصل بالسلاسل الأخرى التي تتكون منها معاقل الحبشة الداخلية
جرت الحركات على طرفي الحدود في جنوبي (أسمرة) عاصمة أريترة بعد مصوع. والأرض في هذه المنطقة جبلية وهي واقعة على سفوح السلسلة الأولى التي تؤلف الضلع الغربي للمثلث، والارتفاعات فيها تتفاوت بين 1500و2500 متر. والانحدارات في السفوح الشرقية على ما نعلم مائلة شديدة الوعورة، وتسلقها صعب، والأرض متقطعة بوديان وفيها وهاد ومضايق. والروابي يعلو بعضها بعضا، والكثير منها مكسو بالغابات والأحراش. أما الطرق فمسالك وعرة يصعب على الحيوانات المحملة السير فيها
والمنطقة بأجمعها تصلح للدفاع أكثر منها للهجوم. ولا تمكن الحركة فيها بقوات كبيرة ما لم يكن السير فيها بأرتال مختلفة متباعدة تفرقها الودن والمضايق عن بعضها فتصعب المواصلة بينها. وفضلا عن ذلك فالمياه فيها شحيحة وموارد الإعاشة قليلة، الأمر الذي يقتضي تجهيز القوات بوسائل النقل الكثيرة والسير فيها يقتضي بطبيعة الحال اتخاذ تدابير الحماية. لذلك كان لا يجوز أبدا تطويل الارتال لأنها تمسي أهدافا ملائمة للمباغتة. والخلاصة أنها من أفضل الأراضي الصالحة للحروب الصغرى بالكمين والمباغتة فهي من هذه الوجهة تفيد الأحباش الذين يعرفونها حق المعرفة ويعلمون بنجدها وغورها فضلا عن تعودهم على إقليمها
والطرق التي تربط مستعمرة إريترية بهذه الساحة تبدأ من ساحل البحر وتمتد إلى الجنوب الغربي فإلى الجنوب، منها طريق شمالي يبدأ من مصوع ويمر بأسمرة بعد أن يتسلق الجبال ويدخل الهضبة. وارتفاع أسمرة 2372 مترا. وقبل أن يقطع نهر مأرب الفاصل للحدود يمر بقرية (غوندت) ثم يصل إلى عدوة وارتفاعها 1965 مترا وهي واقعة بالقرب من أكسوم وإلى شرقيها
والطريق الثاني يبدأ من زولا على خليج عدولى. وبعد أن يمر بقريتي (حلبى) و (كواتيت) يقطع الحدود إلى جنوبي سنافة ويصل إلى قلعة ادجرات وهي من المراكز الحبشية الخطيرة، فيتوجه الطريق بعد ذلك إلى الجنوب ويمر بقلعة (مكا) إلى أن يصل إلى (هرر) ويجري في هذه الساحة تابعا نهر عطبرة وهما مأرب وتكاسه
ومن جملة الأهداف التي كان يتوخاها الطليان في حركاتهم استمالة الرؤوس إلى جانبهم وإثارة الحروب الداخلية في الحبشة لكي يسهل عليهم التغلب على العدو
فكانوا على اتصال برأس مقاطعة تيجري، وبعد هذه المقاطعة تأتي مقاطعة أمحرة الداخلية، وفي جنوبيها مقاطعة شوعا المختصة بالنجاشي، وهي خلف مقاطعة غوجام الداخلية، وفي جنوبي هذه المقاطعات أرض الغالا في منتهى البلاد الحبشية
فيتضح من ذلك أن الحركة يجب أن تجري بمراحل لاحتلال المقاطعات على التوالي، وهذه المقاطعات جميعا وعرة منيعة
قوات الفريقين - الجيش الحبشي
استخدم الطليان رئيسا لتجسس أحوال الحبشة وبالنظر إلى المعلومات التي توصل إليها هذا الضابط من أن أنفس مقاطعات تيجري وأمحرة وغوجام زهاء 2 , 500 , 000 نسمة. أما أنفس مقاطعة شوعا وحدها فتبلغ 2 , 000 , 000 نسمة وهذا مما يجعل لهذه المقاطعة مركزا خطيرا يتجلى بحكمها على المقاطعات الأخرى
ولما لم يكن للحبشة جيش منظم فمن البديهي أن تقدر القوات بالرجال المسلحين الذين تجهزهم المقاطعات المذكورة وعلى هذا الأساس تبلغ قوة الجيش ما يلي:
رجل
20 , 000جيش تيجري
35 , 000جيش أمحرة
20 , 000 جيش غوجام
70 , 000 جيش شوعا
ـــــ
145 , 000المجموع
ونقصد بالجيش القوة الجاهزة التي يستطيع أن يستخدمها الرأس أو ملك المقاطعة، متى شاء بمعنى أنها مستعدة للعمل في كل وقت. أما عند الاقتضاء فيمكن إخراج قوات أخرى بكل سهولة لأن الأحباش جميعا جنود بالطبع لا فرق بين شابهم وشيخهم.
أضف إلى ذلك مقاطعة الغالا وعاصمتها هرر التي تبلغ نفوسها زهاء 3 , 000 , 000 نسمة ومع أنها بعيدة عن ساحة الحركات إلا أنها تستطيع أن تجهز جيش النجاشي بالخيالة.
ولدى الجيش الحبشي أربعون مدفعا على أنواع مختلفة. والأحباش جنود بالطبع فيتحملون السير الطويل دون تعب، ويعسكرون ويسيرون بلا جلبة ولا ضوضاء، ويحصلون على معيشتهم بالتكاليف الحربية ولا يستخدمون وسائل لذلك. فالجندي يحمل أرزاقه معه وهي مقدار قليل من الذرة. والأرزاق التي تكفي الجندي الأوربي ثلاثة أشهر يعيش بها الحبشي سنة كاملة. فالحبشي من هذه الجهة قانع بما يتيسر له.
والوحدة السوقية في الجيش الحبشي هي الفرقة أو القوة التي يخرجها الرأس أو الملك. وهذه القوة تختلف باختلاف مساحة مقاطعة الرأس أو الملك فيتفاوت مقدارها بين 5000 و10 , 000 رجل أو أكثر
واملك أو الرأس يجهز جنوده بالسلاح والحكومة تمده بالسلاح والعتاد عند الاقتضاء. ومع ذلك نرى بعض جنود الأحباش يدبر بنفسه أمر سلاحه وعتاده.
وقد علمنا أن الطليان دون أن يحسبوا حساب المستقبل جهزوا النجاشي بأسلحة حديثة فمنحوه 5000 بندقية و200 , 000 طلقة في المرة الأولى و38000 بندقية و8 مدفعا في المرة الثانية. أما البريطانيون فكانوا قد أهدوا إلى رأس تيجري 900 بندقية. وإذا أضفنا إلى ذلك السلاح الذي استطاع أن يشتريه منليك في المدة الأخيرة علمنا أن لدى الأحباش عدد كبير من البنادق الصالحة للاستعمال
ومن عادة النساء الحبشيات أن يرافقن الجيش فيحملن مواد الإعاشة والماء لرجالهن ويهيئن الطعام في المعسكر ويداوين الجرحى ويشجعن الجنود على القتال
أسلوب التعبئة عند الأحباش
يمتاز الأحباش بالهجوم السريع وبالشدة. ويحسن المشاة الرمي فلا يطلقون النار إلا من مسافات قريبة حرصا على ذخيرتهم وعندما يقتربون من أعدائهم يحملون عليهم صارخين فيستعملوا سيوفهم العريضة في الحملة وجها لوجه، وبرغم وعورة الأرض يحسن الأحباش الركوب. وإذا ما وقع في أيديهم بغل أو جواد ينقلب المشاة حالا إلى خيالة، ويسير المشاة بسرعة ويستخدم الأحباش في الأغلب الخيالة في المجنبة، وذلك للالتفاف حول العدو وقطع خط الاتصال عليه وإذا ما انتصروا عليه قضوا عليه القضاء المبرم بقتل رجاله جميعا. أما في الدفاع فيحسن الأحباش الاستفادة من الأرض ويعمدون إلى الكمون والمباغتة بنجاح
الجيش الطلياني
يتألف الجيش الطلياني من القوات الطليانية والأهلية المرابطة في مستعمرة إريترية والقوات التي يمكن جلبها من إيطاليا
واستخدم الطليان في بادئ الأمر السودانيين والصوماليين وبقايا الجنود المصريين في المستعمرة بعد أن جعلوا نواة القوة من الطليان
وكانت القوة بعد الاحتلال بثلاث سنوات مؤلفة من ألف جندي، وفي سنة 1894 نسق الطليان جيش المستعمرات بتأليف من وحدات طليانية ووحدات أهلية بقيادة الضباط وبعض ضباط الصف الطليان
وكانت القوة الطليانية في بادئ الأمر مؤلفة من فوج مشاة وفصيل مدفعية. أما القوات الأهلية المختلطة فكانت مؤلفة من بطارية وفصيل هندسة ووحدة درك وجنود نقلية
(يتبع)
طه الهاشمي