2 - المجنون للأستاذ مصطفى صادق الرافعي ورأيت المجنونين يدخلان معا فكأنما سدا الباب وسوياه بالبناء، وتركا الغرفة حائطا مصمتا لا باب فيه مما اعتراني من الضيق والحرج؛ وقلت في نفسي: إنه لا مذهب للعقل بين هذين إلا أن يعين كلاهما على صاحبه، فأرى أن أدعهما وأكون أنا أُصرفهما؛ ويا ربما جاء من النوادر في اجتماع مجنونين ما لا يأتي مثله من عقلين يجتمعان على ابتكاره؛ غير أني خشيت أن أكون أنا المجنون بينهما، ثم لا آمن أن يثب أحدهما بالآخر إذا خطرت به الخطرة من شيطانه، فرأيت أن يكون لي ظهير عليهما، إن لم يحق به العون فلا أقل من أن يطول به الصبر. . وكان إلى قريب مني الصديق ا. ش. فأرسلت في طلبه أما هذا المجنون الثاني الذي جاء به (نابغة القرن العشرين) فقد رأيته من قبل، وهو كالكتاب الذي خلطت صحفه بعضها في بعض فتداخلت وفسد ترتيبها، وانقلب بذلك العلم الذي كان فيها جهلا وتخليطا يثب الكلام بعد كل صفحة إلى صفحة غريبة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها وهو طالب أزهري كان همه أن يصير حافظا كالحفاظ الأقدمين من الرواة الفقهاء، فجعل يستظهر كتابا بعد كتاب ومتنا بعد متن؛ وكانت له أذن واعية فكل ما أفرغ فيها من درس أو حديث أو خبر، نزل منها كالنقر على آلة كاتبة، فينطبع في ذهنه انطباع الكتابة لا تمحى ولا تنسى ثم التاث هذه اللوثة وهو يحفظ متنا في فقه الشافعي رضي الله عنه، فغبر سنين يتحفظه، كلما انتهى إلى آخره نسيه من أوله؛ فيعود في حفظه وربما أثبت منه الشيء بعد الشيء، ولكنه إذا بلغ الآخر لم يجد معه الأول؛ فلا يزال هذا دأبه لا يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته. وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ وأجمع أن لا يدع هذا المتن أو يحفظه كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك؛ وأصبح كالذي يرفع الماء إلى البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر. . . وجاء ا. ش فقلت له وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين قال: وهل انتهى القرن العشرون فيعرف من نابغته؟ فقلت للمجنون: أجبه أنت. فسأله: وهل بدأ القرن الواحد والعشرون؟ قال لا قال: فان هذا الذي إلى جانبي نابغة القرن الواحد والعشرين. . . فكما جاز أن يكون هو نابغة قرن لم يبدأ، جاز أن أكون أنا نابغة قرن لم ينته قلت: ولكنك زدت المشكلة تعقيدا من حيث توهمت حلها. فكيف يكون معك في آن وبينك وبينه خمس وستون سنة؟ فنظر نظرة في الفضاء، وهو كلما أراد شيئا عسيرا نظر إلى اللاشيء. . . ثم قال: هذه الأمور لا تشتبه إلا على غير العاقل. . . وكيف لا يكون بيني وبينه خمس وستون سنة وأنا أتقدمه في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة. . .؟ قلت للآخر: أكذلك؟ قال: مما حفظناه عن الحسن: أدركنا قوما لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو أدركوكم لقالوا شياطين. . . فضحك الأول وقال: إنه تلميذي قال الثاني: لقد صدق فهو أستاذي ولكنه حين ينسى لا يذكّره غيري. . . قلت: لا غرو؛ (فما حفظناه) عن الزهري: إذا أنكرت عقلك فقدحه بعاقل. . . فغضب نابغة القرن العشرين وقال: ويح لهذا الجاهل، الأحمق، الجاحد للفضل، مع جنونه وخبله. أيذكّرني وهو منذ كذا وكذا سنة يحفظ متنا واحدا لا يمسكه عقله إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟ صدق والله من قال: عدو عاقل خير؛ خير؛ خير. فقال الثاني: خير من صديق جاهل، ها أنذا قد ذكرتك من نسيان، وهانت ذا رأيت فضحك النابغة وقال: ولكني لم أرد أن أقول هذا، بل أريد أن أؤلف كلاما آخر. . . . . . عدوا عاقل خير، خير، خير؛ خير من مجنون جاهل. . . . . . ورأيت أن في التقاء مجنونين شيئا طريفا غير جنونهما، وصح عندي أن المجنون الواحد هو المجنون؛ أما الاثنان فقد يكون من اجتماعهما وتحاورهما فن ظريف من التمثيل إذا وجدا من يصرفهما في الحديث، ويستخرج ما عندهما، ويستكشف منهما قصتهما العقلية. . . . . . . . . . . . ولم أكن أعرف أن (نابغة القرن العشرين) من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى وبينما أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثلي من الحوار بين هذين المجنونين، إذ قال (نابغة القرن العشرين): صه، إن جرس (التلفون) يدق قال ا. ش: لا أسمع صوتا وليس ههنا تلفون فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقتحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر، والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا وأراك الآن تنكر (تلفونه). . . . . قال ا. ش: وأين التلفون وهذه هي الغرفة بأعيننا؟ فضحك (نابغة القرن العشرين) وقال: صه ويحك لقد خلطت على؛ إن الجرس يدق مرة أخرى وأنا لا أريد أن أكلملها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك قال المجنون الآخر: هي صاحبته التي يهواها وتهواه؛ وقد استهامها وتيمها وحيرها وخبلها حتى لا صبر لها عنه، فوضعت له تلفونا في رأسه. . . . . . . . . قال (النابغة): وهذا التلفون لا يسمعني صوتها فقط، بل ينشقني عطرها أيضا. وقد تكلمني فيه الملائكة أحيانا، وأنا ساخط هذه الحبيبة فأنها غيور تخشى سطواتها على اللاتي تغار منهن؛ ولولا ذلك لكلمتني في هذا التلفون إحدى الحور العين. . . قلنا: أو تغار منها الحور العين؟ قال المجنون الثاني: بل الأمر فوق ذلك، فان الحور العين يشتمنها ويلعنها؛ (فمما حفظناه) هذا الحديث: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا قال (نابغة القرن العشرين): ويلي على المجنون! إنه يريد أن يخلوا له موضعي فهو يتمنى هلاكي وانتقالي وشيكا من هذه الدنيا. وهو يقول بغير علم لأنه أحمق ليس له عقدة من العقل، فيزعم أنها تؤذيني، ولو هي آذتني لغضبت قبل ذلك، ولو غضبت لرفعت التلفون. صه إن الجرس يدق قال ا. ش: إن للنوابغ لشأنا عجيبا، ففي مديرية الشرقية رجل نابغة ماتت زوجته وتركت له غلاما فتزوج أخرى وهو يعيش في دار أبيه. فلما كان عيد الأضحى سأل أباه مالا يبتاع به الأضحية فلم يعطه. وهو رجل يحفظ القرآن فذكر قصة إبراهيم عليه السلام ورؤياه في المنام أنه يذبح أبنه، فخيل إليه أن هذا باب النبوة وأن الله قد أوحى إليه، فأخذ الغلام في صبيحة العيد وهم بذبحه. ولولا صرخ الغلام فأدركه الناس فاستنقذوه. . . قال (نابغة القرن العشرين): هذا مجنون وليس بنابغة؛ بل هذا من جهلاء المجانين؛ بل هو مجنون على حدته. وقد رأيته في البيمارستمان حين كنت أنا في المستشفى. . . فكان يزعم أنه ائتمر في ذبح غلامه بإرادة الله. ولو كانت إرادة الله لنفذت بالذبح، ولو كان الأمر وحيا لنزل عليه من السماء كبش يذبحه. . . وهكذا أنا في المنطق (نابغة القرن العشرين) ثم إنه أشار إلى المجنون الثاني وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة كاملة قلت: ولكنك ذكرت هذا من قبل فلم عدت فيه الآن؟ قال: إن السبب قد تغير فتغير معنى الكلام؛ وقد بدا إلى أنه يتمنى هلاكي ليكون هو نابغة القرن العشرين. فمعنى الكلام الآن: أنه لو عاش خمسا وستين سنة (يحفظ المتن) لما بلغ مبلغي من العلم. هذا رجل نصفه ميت جنونا موتا حقيقيا، ونصفه الآخر ميت جهلا بالموت المعنوي قال ا. ش: حسبه أن يقلدك تقليد العامي لإمامه في الصلاة؛ وعسى ألا تستكثر عليه هذا فأنه تلميذك قال المجنون الثاني (مما حفظناه): لو صُوِّر العقل لأضاء معه الليل، ولو صور الجهل لأظلم معه النهار. . . ونابغة القرن العشرين هذا لا يعرف كيف يصلي، فقد وقف منذ أيام يصلي بالشعر. . . ولما رأيته ناسيا فذكرته ونبهته أن الصلاة لا تجوز بالشعر، التفت إلي وهو راكع فسبني وشتمني وصرخ في وقال: ما شأنك بي هل أنا أصلي لك أنت. . . فغضب (النابغة) وقال: والله إن تحسبونني إلا مجنونا فتريدون أن يقلدني هذا الأحمق الذي ليس له رأي يمسكه. ولولا ذلك لما اعتقدتم أن تقليدي من السهل الممكن، ولعرفتم أن نابغة القرن العشرين نفسه لم يستطع تقليد نابغة القرن العشرين قلنا: هذا عجيب، وكيف كان ذلك؟ فضحك وقال: لا أعدّكم من الأذكياء إلا إذا عقلتم كيف كان ذلك قال ا. ش: هذا لم يعرف مثله فكيف نعرفه، ولم يتوهمه أحد فكيف نتوهمه؟ وقلت أنا: لعلك رأيت نفسك في الرؤيا قال: لو لم تكن أستاذ نابغة القرن العشرين لما عرفتها؛ وهذا نصف الصواب؛ وما دمت أستاذي، فلو أننا اختلفنا في رأي لكان لي صوابا لأنه منك، وكان خلافي لك صوابا لأنه مني؛ فأنت (غير مخطئ) وأنا مصيب، وإذا أسقطنا كلمة (غير) أضل أنا مصيبا وتكون أنت مخطئا. . . أنا لم أر (نابغة القرن العشرين) في الرؤيا ولكني رأيته في المرآة عند الحلاق. . . ورأيته يقلدني في كل شيء حتى في الإشارة والقومة والقعدة، ولكني صرخت فيه وسببته ففتح فمه ثم خافني ولم يتكلم. . . وأومأ إلى المجنون الآخر وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة قال ا. ش: لقد قلتها مرتين كلتاهما بمعنى واحد، فما معناك في هذه الثالثة؟ قال: هذا الغِرّ يزعم أني لا أعرف كيف أصلي، ويستدل بذلك بأني صليت بالشعر وأني شتمته وأنا راكع؛ ولو كان عاقلا لعلم أن شتمي إياه وأنا راكع ثواب له. . . ولو كان نابغة لعلم أن الشعر كان في مدح دولة النحاس باشا وأولى النُّهى قلنا: ولكن الشعر على كل حال لا تجوز به الصلاة ولو في مدح دولة النحاس باشا قال: لم أصل به ولكن خطر لي وأنا أصلي أني نسيت القصيدة فأردت أن أتحقق أني لم أنسها. . . فإذا أنا نابغة القرن العشرين في الحفظ وهي ستة أبيات. لا كهذا المعتوه الذي صبر على المتن صبر الغريب على الغربة الطويلة ومع ذلك لم يحفظه قال ا. ش: فأملِ علينا هذا الشعر. فأملى عليه يا حليف السُّهْد قل لي ... أين مَنْ في الدهر خالْ إن تكن تهوى غزالا ... أكحل العينين مالْ أنا أهواها ولكن ... لا سبيل إلى الوصالْ منذ ولَّت قلتُ مهلاً ... منذ غابت في خيالْ أنا مجنونٌ بليلى ... ليلَ يا ليلى! تعالْ قلنا ولكن ليس هذا مدحا. فضحك وقال: أردت أن تعرفوا أني أقول في الغزل، أما المديح فهو: شغفَ الورى بمناصبٍ وأماني ... وشَغَفْتَ يا نحاسُ بالأوطان حسبوا الحياةَ تفاخرا وتنعّما ... وحسِبتها للهِ والأوطان ثم ارتَجّ عليه فسكت. قال المجنون الآخر: إنها ستة أبيات، وقد نسيت أربعة، ولست أريد أن أذكرك فقال (النابغة): أظنه قد حان وقت الصلاة وأريد أن أصلي. . . ونظر إلى اللاشيء في الفضاء ثم قال. والبيت الأخير: لا أبتغي في المدح غيرَ أولي النُّهى ... أو صادق أو شوقي أو مطران ثم أمر ا. ش أن يقرأ عليه الشعر فقرأه، فقال: أحسنت، أنظر إلى فوق؛ فنظر، ثم قال انظر إلى تحت؛ فنظر ثم سكت قال ا. ش: وبعد؟ قال: وبعد فإن الناس ينظرون إما إلى فوق وإما إلى تحت. . . وكان الضجر قد نال مني، فرجوت ا. ش. أن يلبث معهما وأذنت لنابغة القرن العشرين أن يلقاني في الندى وانصرفت قال ا. ش وهو يُنبّئني: فما غبت عنا حتى أخذ المجنون يشكو ويتوجع ويقول: لقد حاق بي الظلم، وإن (الرافعي) رجل عسوف ظالم لأني أكتب له كل مقالاته التي ينشرها في (الرسالة). . . وأجمع نفسي لها، واجهد في بيانها، وأذيب عقلي فيها، وهو مستريح وادع، وليس إلا أن ينتحلها ويضع توقيعه عليها ويبعث بها إلى المجلة ثم يقبض هو فيها الذهب وينال الشهرة ولا يدفع لي عن كل مقالة إلا قرشين. . . قال ا. ش: فما يمنعك أن ترسل أنت هذه المقالات إلى المجلة فتقبض فيها الذهب، قال: إن هناك أسرارا أنا محصنها وكاتمها، ولا ينبغي أن يعلمها أحد فأنها أسرار. . . قال له فدع (الرافعي) واكتب لي أنا هذه المقالات وأنا أعطيك في كل مقالة ذهبين لا قرشين قال هذه أسرار ولا أستطيع أن اكتب ' إلا للرافعي، لأن (نابغة القرن العشرين) لا يجوز أن يدعي كلامه إلا أستاذ نابغة القرن العشرين، ولو ادعاه غيره لكان هذا حطا من قدر نابغة القرن العشرين. وهذا بعض الأسرار لا كل الأسرار. . . قلت ثم جاء المجنونان في العشية إلى الندى (لها بقية) مصطفى صادق الرافعي