الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 125/في الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة/العدد 125/في الأدب الإنجليزي

بتاريخ: 25 - 11 - 1935

6 - الكائنات الغيبية في شعر

بقلم خيري حماد

تتمة البحث

فلسفة الدينية:

أن من الصعب علينا أن نرجع إحدى رواياته العديدة إلى أصل ديني صريح، ولكن هناك عدداً غير قليل من العقائد الدينية أودعها شكسبير ثنايا شعره ومؤلفاته، وتختلف هذه العقائد باختلاف الروايات التي ورد ذكرها فيها.

ففي رواية الملك هنري الخامس نرى فكرتين دينيتين أودعهما الشاعر في روايته. وأولى هذه العقائد هي عقيدته في أصل خطأ الإنسان، وثانيتهما هي عقيدته في المعمودية. آما خطأ الإنسان فكان منشؤه تلك الخطيئة العظيمة التي اقترفها آدم أبو البشر. اجترم ذلك الجرم فتلوثت نفسه بتلك الخطيئة وكان جديراً بعد ذلك أن تتطهر نفسه مما لحق بها من الأدران، فأرسل الله إليه أحد الملائكة واخرج منه تلك الروح الطائشة ووضع بدلاً منها روحاً طاهرة نقية، وما اقتراف الناس للآثام إلا سير على السنن الذي اختطه والدهم من قبل واحتذاء لحذوه.

وهناك عقيدة ثالثة أدرجها شكسبير في رواية هملت، فهو يعتقد أن الدعاء والابتهال إلى الله لا يصل إلى السماء إلا إذا كان صادراً عن نفس طاهرة وقلب صادق الإخلاص، وهذه حقيقة دينية تثبت أن شكسبير كان رجلاً ورعاً تقياً يؤمن بصدق النية وخلوصها من الرياء والنفاق.

نظر شكسبير إلى هذا العالم الملئ بالشرور والموبقات نظرة احتقار وازدراء فكان دائم التوق إلى الخلاص منها والانتقال إلى حياة أروع منها وأطهر، وقد ذكر عقيدته هذه على لسان بطله هملت الذي كان يقصد الترفع عن الأمور التافهة الشريرة والسمو بنفسه في عالم أرقى، عالم ملؤه التقى والصلاح والسعي إلى ما فيه خير الناس.

وفي رواية الملك يوحنا نرى شكا في عالم آخر يلقى الناس فيه أبنائهم وأصدقاءهم، ذلكم هو يوم البعث والحساب، وشكه هذا يظهر على لسان الأميرة كنستانس عندما تخاطب الكردينال قائلة: (أن كان حقا ما تقول عن وجود حياة أخرى مجتمع فيها بأصدقائنا فأني لا شك واجدة ولدي الذي فقدته في المهد صبياً).

آما اعتقاد شكسبير في وجود الإله فكان عقيدة ثابتة لا شك فيها ولا مراء. فهو دائما يذكر الإله في عدد من رواياته وعندما يقصد إظهار أمر عظيم يقسم بالإله الأعظم الذي تطأطئ له جباه البشر؛ فهو يقول على لسان بانكو: (أني لأقسم إمام الإله القدير أن أحارب جميع المكائد التي يقصد منها خراب الأمة والبلاد).

وفي رواية روميو وجولييت تظهر لنا عقيدته في المعمودية، فالإنسان إذا اقترف أمراً منكرا وجب عليه أن يتعمد مرة أخرى فيصبح كأنه حديث النشأة والولادة ويتخلص بواسطة ذلك مما لحقه من ذنوب ومعاص.

واهم هذه العقائد الدينية الكثيرة التي ضمنها شكسبير رواياته عقيدتان: أولاهما حق الملك الآلهي، وثانيتهما عقيدة تناسخ الأرواح؛ وقد ذكرت العقيدة الأولى في موضعين من روايات شكسبير: أحدهما في رواية الملك ريشارد الثاني عندما يهتف الملك قائلا: (أن جميع مياه المحيطات لعاجزة عن أن تمحو الزيت المقدس عن الملك المنصب من قبل الآلهة). والآخر في رواية مكبث عندما يتقدم الطبيب إلى مالكولم بقوله واصفا الملك القديس: (ولمسة من يده التي وضع فيها الإله قدسية وطهارة لم يضعهما في غيره كانت كافية لان تشفى المرضى والمصابين).

من هاتين الفقرتين يتبين أن شكسبير كان يؤمن بحق الملك الآلهي، وانهم نفر من الناس اختارهم الله لإدارة شعوبه، فعليهم طاعتهم وتنفيذ أوامرهم. وليس من العجيب أن يعتقد هذا الاعتقاد وقد وجد في عصر سادت فيه هذه العقيدة وآمن بها الناس على اختلاف ملكهم ونحلهم، ولم تكن لأفكار الحرّة قد انتشرت بعد، بل كان الناس يفضلون كل ما هو قديم موجود.

وأما العقيدة الثانية كما ذكرنا فهي عقيدة تناسخ الأرواح، وهذه تؤلف قسما من النظرية المعروفة لدينا بنظرية فيثاغورس التي تقول بانتقال بعض الأرواح من أجسادها إلى أجساد أخرى، فروح الرجل التقى الورع تنتقل إلى جسد كريم تحل فيه وتتخذ منه مكاناً لأقامتها، وأما روح الرجل الشرير فتحل في جسد أحد الحيوانات الشريرة؛ وقد ذكر شكسبير هذه العقيدة في (الليلة الثانية وفي تاجر البندقية، وفي كل من هذين الموضعين ينظر شكسبير إلى هذه العقيدةنظرة استخفاف وازدراء، فهو يقول على لسان كراشيانو في الرواية الثانية: (انك لتجعل من عقيدتي موضعاً دائماً للشك فيسهل علي حينئذ الاعتقاد بنظرية فيثاغورس التي تقول بانتقال أرواح الحيوانات إلى أجساد البشر).

وفي رواية (الليلة الثانية عشرة) نرى حواراً بين المهرج وبين مالفوليو. واليك نصه:

المهرج: (ما هي نظرية فيثاغورس؟)

مالفوليو: (أنها تعني انتقال روح جدتي إلى جسد أحد الطيور)

المهرج: (ماذا تعتقد في هذه الفكرة؟)

مالفوليو: (أني للأنزَّه الروح أن تنزل إلى هذا المستوى ولذلك فآني اعتقد بأنها نظرية خاطئة)

المهرج: (وداعاً يا صاح! لتبق على جهلك، وستعتقد بهذه العقيدة قبل أن أعيد إليك عقلك، وعندئذ ستتردد في ذبح أحد الطيور مخافة أن تحل روحه محل روح جدتك)

من هذا الحوار يتبين أن شكسبير كان يستهزئ بهذه العقيدة وينظر إليها نظرةاحتقار وازدراء؛ فعقائده الدينية لا تسمح له بهذا التفكير، ولذلك كان جديراً به أن يوليها ظهره وألا يهتم اهتماماً جدياً.

وقبل أن اختم هذا البحث في فلسفة شكسبير الدينية أورد ما قاله جبسن عنه: (إن الاحترام الزائد الذي أبداه شكسبير في رواياته نحو الديانة المسيحية الأساسية لتجعلنا أميل إلى الاعتقاد في نصرا نيته لولا عدم وجود أحد الأدلة لنثبت لنا انه كان مسيحياً صادقاً) ولكنه لم يكن يوماً ما معتقداً بجميع الاعتقادات التي آمن بها أهل عصره. نعم لقد عاش مسيحياً ومات مسيحياً، ولكنه اظهر في بعض الأمور شكا وتساؤلاً عن صحتها وصدقها. نعم كان شديد الاحترام للكنيسة وعقائدها ولكنه خالفها في كثير من المواضع.

خاتمة:

لو تتبعنا نظريات شكسبير في الأمور المغيبة التي ذكرناها سابقاً لرأينا الاهتمام الذي أبداه نحوها، نعم عاش في عصر سادت فيه الخرافات والأوهام، ولكنه تطلع بعين ثاقبة فرأى أشياء كثيرة يعجز الرجل العادي عن رؤيتها. كانت له القدرة الكافية على تفهم الأشياء المغيبة ففهمها بطريقة تخالف الطريقة التي فهمها الغير.

ولم تكن العقائد الشائعة المصدر الوحيد الذي اعتمده شاعرنا في أبحاثه عن المغيبات، بل كانت هناك مصادر أخرى من الفلسفة الرومانية والإغريقية القديمة مضافا إليها الابتكار الذي أوجده شكسبير دون أن ينقل عن غيره. سمع بأذنه ما يدور بين الناس من هواجس وأوهام فجمعها في شعره إلى ما نقله عن مخلفات السلف وأخرج منها روائع تعد من أعظم مبتكرات الأدب، وأخص بالذكر منها رواية (حلم منتصف ليلة من ليالي الصيف).

وأما الشبح في رواية هملت فيحوي نوعين من الأشباح أحدهما كان من ابتكار الشاعر العبقري والآخر مما نقله عن سابقيه من الكتاب الذين رووا حادثة الأمير هملت بشكل قصصي.

وأما ساحرات مكبث فقد اقتبسها شكسبير عن ويتبين لنا هذا مما قال في هولنشد: (بينما كان مكبث راجعاً إلى العاصمة إذا به يصادف ثلاثاً من النسوة وقد ارتدين ألبسة تشبه ما كان يرتديه النساء في ذلك العصر)؛ وأما شبح بانكو فهو ابتكار ابتدعه الشاعر العظيم؛ وأما رواية العاصفة فيغلب على الظن أنها الأولى من نوعها، وذلك لعدم وجود من كتب في موضوعها من الشعراء والكتاب الذين دونت كتبهم في السجلات وكتب القصص والتاريخ.

تقع حياة شكسبير بالنسبة إلى بحثه في المغيبات في أربعة أطوار: الطور الأول منها هو طور ظهور روايته (حلم في منتصف ليلة من ليالي الصيف) فاستعماله للجنيات مبتكر ومحدث. . وهو سلس في كتابته بعيد كل البعد عما يرهق الذاكرة ويمل القارئ. وقد وصف كلارك كتابه هذا بقوله: (أن استعمال شكسبير المغيبات لأول مرة لمما يدل على سروره ومرحه: فكل روايته هذه ملأى بالبهجة والحبور، ويندر أن تجد هنالك ما يكدرك إلا ما يقع في الأسطر القليلة التي بحثت في الأشباح).

وأما الطور الثاني من أطوار تأليفه فهوة الدور الذي ظهرت فيه روايته الثانية هملت؛ وفي هذه الرواية التمثيلية نشعر بالأرواح والأشباح تتصل ببني البشر اتصالاً لا يكاد يكون تاما، فان هذه القوى الخفية لا تستطيع أن تؤثر في مجرى حياة الإنسان وتحوله في الجهة التي تريدها، ولا يقوم الشبح في هذه الرواية بأي عمل من الأعمال إلا إذا كان بطريق وسيطه؛ وكان شكسبير في هذا الطور قد بلغ الثلاثين من سنه وبدأت نظرته في الحياة تتحول من تفاؤل إلى تشاؤم وأخذت الأفكار والظنون تنتابه فتجعل منه عرضةً دائمة للتفكير والتخيل، فاعتقد أن وراء الإنسان قدر يسيره حسبما يريد، وما الإنسان إلا فريسة لهذا القدر الغاشم.

والطور الثالث ينتهي بإخراج مكبث. ازدادت هذه المخلوقات المغيبة ولكها عاجزة عن إيقاع الضرر بالناس مباشرة ودون أية واسطة، ولم تكن كلمات الساحرات الحقيقة إلا صدى يردد ما كان يدور في خلد بطل الرواية، وكان شكسبير يشعر بالشرور والموبقات تحيط به من كل جانب فأظلم أفكاره وتناوبته الهواجس المختلفة، واصبح في خوف مستمر من هذه القوى الخفية التي تقوم بأعمالها تحت ستار من الظلم والخفاء. وهنا يصل إيمانه بالخرافات إلى القمة ويصبح شكسبير مؤمنا مصدقاً لكل ما يقال له عن هذه الأمور المخيفة المرعبة.

وفي الطور الرابع أو الأخير نراه يخرج للناس رواية العاصفة وفيها يسترد رباطة جأشه وقوة عقيدته فيرجع إلى أفكاره المرحة الطلقة مرةً ثانية. فما الأرواح والقوى الخفية إلا عبيد يستخدمها الإنسان في مهامه وأغراضه، وليس لها من القوة والسلطة على شئ؛ وفي هذه السنوات الأخيرة يصل خياله الابتداعي أقصى غايته. فيشعر بحقيقة الوجود وطبيعة الأمور دون أي ستار أو غطاء.

وقد تخلص شكسبير من هواجسه ومخاوفه وعاد مرة ثانية إلى مرحه وسروره الذي أظهره في صورته التي صورها للجنيات فانطلقت مخيلته في الفضاء مجتازة جميع العوائق من عقائد وأفكار رجعية. وسجلت في روايته الأخيرة نتيجة عبقريته ونبوغه.

وفي كل من هذه الأطوار الأربعة رأينا شكسبير يتخذ مواضيعه مما كان يدور في خلده من المسائل والمشاغل العقلية، فهي مفكر واسع التفكير، مصور حسن التصوير، وشاعر خصب الخيال؛ تجلى تفكيره في كل هذه الأمور العقلية التي بحثها، وظهر تصويره في هذه الرسوم الرائعة التي رسمها لمخلوقات خيالية بأبدع تكوين واحسن تصوير.

نابلس - فلسطين

خيري حماد