مجلة الرسالة/العدد 125/إلى الأستاذ الفاضل مصطفى صادق الرافعي
→ أندلسيات: | مجلة الرسالة - العدد 125 إلى الأستاذ الفاضل مصطفى صادق الرافعي [[مؤلف:|]] |
عمرو بن العاص ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1935 |
المشكلة
للأديب أحمد الطاهر
لا فضل لي فيما اعرض من رأي في هذه المشكلة التي عرضت في (الرسالة) يوم الاثنين ليلة النصف من شعبان، بل الفضل لصاحبة (الجمال البائس) فيما أوحت به إليك من رأي في رجولة الرجل.
فإذا استوت للرجل رجولته فسبيل الحياة له يكون كما أراده الله أن يكون: خيراً، ويسراً. أما ما يلقى الرجال فيه مما يسمونه بأسماء تضاد الخير واليسر فمرجعه في أكثر الأحوال إلى أن الرجل لم تستو رجولته ولم تكمل. والنقص في الرجولة زيادة في الشقاء، وإذا لقي الرجل في سبيل الحياة نتوءاً يتعثر فيه ففي وجولته ثغرة قد قدت على قدر هذا النتوء.
ونعود إلى صاحب المشكلة - وفقه الله - فنمتحن رجولته فنجدها ناقصة من بعض نواحيها، سقيمة في بعضها الآخر؛ ولكن نقصها ليس مما يستعصي على الكمال، وسقمها ليس مما يحمل على اليأس في أي حال، فمشكلته ليست عسيرة والحمد لله شهد الفتى على نفسه فقال أن الرجل الجاثم في عقله هو غروره - يومئذ - وكبرياؤه يقع في الخطأ بعد الخطأ، ويأتي الحماقة بعد الحماقة؛ ونشأ صلب الرأي، معتداً بنفسه، إذا هم مضى، وإذا مضى لا يلوى، وما هو إلا أن يخطر له الخاطر فيركب رأسه. . .)
اللهم غفراً ورحمة لهذا الفتى!!
انه قد عرف عيب نفسه، ومن عرف عيبها وأصحر به فقد نهج السبيل إلى علاجها، وانه لواصل إلى غايته عاجلا أو آجلا، لا ينقصه إلا أن يذيقها مرارة الحق لتشفى بعد أن استساغت حلاوة الباطل فسقمت.
البلاء الذي لا يشبهه بلاء، والسقم الذي لا يرجى منه شفاء، هو أن يجهل الرجل عيب نفسه، أو يعلمه ناقصا يلتمس فيه الأسباب والعلل المبررة.
آما صاحبنا فكما نعلم من القصة: رجل فاضل مهذب ذو ميسرة، وبيته بيت فيه الدين والخلق والشهامة والنجدة؛ وبعض هذا فيما أرى كفيل بتيسير العلاج له برعاية الله التي لا تتخلى عن بيت فيه الدين. فان ضل واحد من أفراد هذا البيت، ففي قلبه من أثر الدين بسط سلطانه على البيت منذ نشأته بقية صالحة يكشف عنها غطاؤها فتقود هذا القلب إلى الخير في عجلة أو وناء. فلندع رجل المشكلة الآن ولننظر إلى فتاتها.
هذه الفتاة التي سميت للفتى - سامحها الله - لِمَ أغلقت الباب في وجهه؟ لم يذكر لنا عارض المشكلة سبباً صريحاً لهذه الفعلة. على أن إدراك السبب ليس بعسير، فلقد نستطيع أن ندركه (بالاستنتاج والمقارنة)؛ فالفتاة الثانية التي عرفها صاحب المشكلة فاحبها لم تغلق في وجهه الباب لأنها كانت فتاة جذابة (أمسكت بإحدى يديها عنانه) فمضى قدما، فإذا التفت إلى الوراء قرأفي عينيها كلمات: ((أتستطيع فرارا مني؟) فيقول: (لا) ويمضي. . . (ثم يلتصق بجسمها) فتسرى منها إلى قلبه رسالة يقرؤها بقلبه المريض، فإذا هي: (الدنيا كلها هنا). . . .
هذا شانها، وما احسب أن من ظالم الأحكام أن نصف الفتاة بان في حياتها لينا ورخاوة، ولذا لم تغلق في وجهه الباب وهي لم تصبح زوجا له بعد. ولا أحسب أن الفتاة الأولى قد أغلقت الباب إلا لان في حياتها شدة واستمساكا.
إلا فاعلم يا صاحب المشكلة، أن حياء المرأة إذا أصيب باللين والرخاوة ثغر فيه الشيطان ثغرة يجلس على بابها ويصيح: (هلموا أيها الفتيان!) وسرعان ما يستجيب الفتيان لصيحة الشيطان. واعلم وقاك الله أن هذه الفتاة التي فتحت لك الباب أن تزوجتها فستتزوج معها الشيطان الجاثم على ثغرة حيائها وسينضم إلى شيطانك فتصبح بين ثلاثة: امرأة وشيطانين! وأنت واحد! وستكون بين أمرين أحلاهما مر: آما أن يأتمر بك الشيطانان فيوسعا في ثغرة حياتها حتى يدخل فيها غيرك من الفتيان. وإما أن تضيق أنت بما وسع الشيطانين أن يفعلا فتلجأ إلى ابغض الحلال إلى الله - الطلاق! وأدعو لك مرة أخرى: وقاك الله. على أن الشيطانين أن أعياهما صبرك أو سعة في حلمك دارا بوجهيهما إلى المرأة فصوراك لها بصورة بشعة قبيحة، وبذرا في قلبها حبا مراً اسود ينبت في القلوب المريضة فيثمر ثمراً مراً اسود يسمى البغضاء ويسمى الكراهية ويسمى المقت: ولا يزال هذا الثمر ينمو ويربو حتى ينضج ويستوي فلا يتسع له قلب المرأة فتحاول أن تجتثه من اصله فلا تستطيع، فتعمد إلى الزوج تحاول أن تجتثه، فان أفلحت فذلك ما أرادت وتستريح ويشقى الرجل شقاء المحروم من أهله، وإن لم تصبه أصابت شرفه ويشقى الرجل شقاء المثلوم في عرضه؛ أقبل أيها الرجل على تلك التي أغلقت الباب في وجهك: -
أتدري لم أغلقته؟
لأنك لم تكن وحدك حين طرقت بابها! لقد رأت معك شيطانك وما يتسع بابها لدخول إنسان وشيطان. لقد رأت معك الشيطان متمثلا في (غرورك وشبابك وكبريائك وعنادك) فأشفقت عليك وعلى نفسها من ثالث يدخل بينكما. ولو أفسد الشيطان وأنتما لم تصبحا زوجين بعد فيا للشقاء ويا للعار!
إنها أغلقت الباب في وجهك وأنت خطيبها المسمى لها وأحكمت إغلاقه من الداخل حتى لا تستطيع أنت أن تدخل عليها، فكان الأجدر برجولتك أن تحكم إغلاقه من الخارج حتى لا يستطيع غيرك أن يدخل أليها.
حتى إذا حان موعد الزواج فضضتما الإغلاق في وقت واحد وفي حضرة نفر من الأهل وذوي القربى، وعسير على الشيطان يومئذ أن يندس بينكما.
ما عليك أيها الرجل إلا أن تفتح قلبك لهذه المرأة الحيية الخفرة فتصل ما بينها وبينك، وتغمض عينيك عن كل ما يصوره لك غرورك ونزقك وكبرياؤك وصلفك، ولن تلبث طويلا حتى ترى هذه الفتاة جندا من جنودك يحارب معك أعداء نفسك ويعالج معك أدوَاءَها، وستصلان إلى الحب الزوجي النقي وفيه منك العطف والحنان، وفيه منها الوفاء والإخلاص.
ستجد في هذا عناء ونصبا، وسوف تتمثل لك الفتاة التي أحببت بين حين وآخر وأنا أدلك على ما يجب أن تعمل:
انظر بعقلك الذي تبرأ منك حين صدت عنك الفتاة:
تلك الفتاة التي قد أحببت وضَعَتْ جمالها ورقتها وفتنتها وذكاءها في إناء ولم تحبسه عن الناس ولم تتخذ لصيانته سببا من الأسباب. وهذه الفتاة التي كرهت لقد وضعت عفتها ووفاءها وشرفها وحياءها في إناء وأغلقت دونه الأبواب. فأيهما أبقى على الزمن؟ وآيهما أخلص لك؟ وأيهما لا يعبث به نزق الفتيان؟
وان كان في صدرك حرج مما لا تجد في زوجتك الخفرة من جمال ورقة وفتنة وذكاء وما يتراءى لك في الفتاة الجذابة فخذ واحدة مما زُيِّنَ لك من صفاتها وضَعْها إلى جوار واحدة مما ترى من صفات زوجتك: خذ الجمال من تلك وضعه إلى جوار الشرف من هذه: وانظر في نصيبك من الاثنين:
ألست ترى جمال الجميلة ملكا لها تجود منه بما تشاء ومتى تشاء ولمن تشاء؟ وشرف الشريفة لك ولزوجتك تنعمان بفضله ما بقى، وتستظلان بفيئه ما كان؛ لا يستأثر به واحد منكما وحده، ولا يبخل بخيره أحدكما على الآخر؟ إلا تجد الجمال متاعا تستهلكه أنوثة المرأة، والشرف متاعا تستبقيه رجولة الرجل؟
ثم خذ الذكاء من الحبيبة إليك وضعه إلى جوار الحياء من البغيضة إليك وانظر إلى حظك من الاثنين:
إلا تجد الذكاء سلاحا في يد الأولى تحارب به كل الناس وزوجها: والحياء سلاحا في يد الثانية تحارب به كل الناس إلا زوجها؟
خذ الفتنة من تلك والوفاء من هذه إلا ترى الفتانة تنادي بفتنتها: هلموا إلي أيها الناس، وترى الوفية تنادي بوفائها: هلم ألي أيها الزوج؟
وبعد، فهاتان اثنتان إحداهما وقفت بالباب، والأخرى أغلقت الباب
آما التي وقفت بالباب فأنها تستقبل الدنيا وتستدبر الدار، وأما التي أغلقت على نفسها الباب فأنها تستقبل الدار وتستدبر الدنيا. والدنيا للناس جميعاً، والدار لك وحدك.
فانظر أيتهما الصالحة لك، الجديرة بحبك، الأمينة على بيتك، الحفيظة على شرفك.
سترى في زوجتك عيوباً ونقصاً، وستتجسم هذه العيوب، لأنك تنظر إليها بغير عين الرضا؛ وخير لك ألا تفكر في هذه العيوب حين تبدو لك إلا بمقدار ما تحاول إصلاحها، وأن تروض نفسك على اليقين بأن المرأة الكاملة لم تخلق بعد، ولن تخلق بعد، فلو خلقت الزوجة الكاملة خلُقاً وخلْقاً لتعطل في الرجل كثير من صفات الرجولة، ولما شعر الرجل بما مازه الله به على المرأة، ولخرجت المرأة من أنوثتها، ولتزحزح الرجل عن رجولته؛ ولما كان الرجال قوامين على النساء.
ولا أجد في الرد على ما تدعيه لنفسك من الحرية أبلغ مما أجابك به عمك حين قال: (إن كنت حرا كما تزعم فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها)، وحين يسائلك: (إلا تكون حرا إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟).
وان كنت تبيح لنفسك تحت ظل هذه الحرية أن تحب غير امرأتك لا لسبب إلا لأنك رأيت فتاة غيرها تفوق زوجتك جمالا ورقة وعذوبة منطق، فبم سينتهي بك هذا؟
إلا تدري انك أن وثبت إلى الفتاة تراها فتعجبك فتتخذها زوجة دون زوجتك أو تضمها إليها فما زالت في الدنيا وما زال فيها من هي أجمل وأذكى وأدعى للفتنة من تلك التي أعجبتك: أتثب إليها أيضاً وتتخذها زوجة ثالثة، أم تطلق الاثنتين وتتزوج الثالثة؟ ألاتعلم أن هذا لا ينتهي بك إلى نهاية، ولا يقف بك عند غاية، ولو أباح الناس جميعاً لأنفسهم هذه الفعلة لما قامت زوجية صالحة، ولا نعم الأولاد بالحنان الممتزج من الأبوة والأمومة، ولأفضى الحال بالناس إلى أن يتواثب الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، ولفسدت بذلك الأرض؟
يا أخي: إن المتزوج الذي يشتهي جمالا اكمل من جمال زوجته أو فضلاً لم يجده في زوجته فيثب إليه إنما هو رجل قد اسقط مروءته وأهدر رجولته وظلم زوجته أشد الظلم، وكفر بأنعم الله أشد الكفران، وديث شرفه بالصغار. وحسبك لتقدر هذا أن تزن الفعلة وزنها لو انعكس الوضع فأباحت الزوجة لنفسها ما يبيح الرجل لنفسه؛ لا تقل أن الله أباح للرجل أن يتزوج بأكثر منواحدة إلى أربع دون المرأة، فلذلك حكمة وقيود لا يسقط بها حق المرأة على الرجل وواجب الرجل قبل المرأة.
ما أحسبك إلا فهمت هذا وأحسنت تقديره، وأنت القائل لعمك انك تقدر الرجولة والثواب والمروءة
اتق الله في الزوجة، وأشعر نفسك قوة الرجولة، وانظر إلى ضعف الأنوثة؛ وليكن لك على قلبك السلطان القوي، وهيئ بالقطف والحنان مهادا للحب الزوجي تجد أن زوجتك احب الناس إليك، وأقدرهم على إسعادك.
اليوزباشي أحمد الطاهر