مجلة الرسالة/العدد 124/بين الأدب والسياسة
→ آيتان من آيات الله | مجلة الرسالة - العدد 124 بين الأدب والسياسة [[مؤلف:|]] |
عمرو بن العاص) ← |
بتاريخ: 18 - 11 - 1935 |
للأديب أحمد الطاهر
نقصد بتاريخ الأدب - هنا - كل ما يتناول الحياة الأدبية للأمة، مما يطرأ عليها من القوة أو الضعف، والصعود أو الهبوط، وأسباب ذلك، وما ينتجه أصحاب البيان في مختلف مناحي القول، ودراسة حياة أولئك المنتجين، وأثر ما انتضحت به قرائحهم في اللغة.
ونقصد بالتاريخ السياسي والاجتماعي - هنا أيضاً - ما يطرأ على الأمة من أحداث وتغيير في نظامها السياسي وعلاقة الحاكم بالمحكوم ونظام الحكم فيها، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وكذا حالتها الاقتصادية والمالية، وعلاقة ذلك بمرافقها.
وما سقنا هذا التعريف - وهو غير جامع ولا مانع - إلا لنحد به موضع البحث في الصلة بين التاريخين، وهي صلة وثيقة واشجة. فقلّ أن يتأثر أحدهما بعامل من العوامل دون أن يبدو لذلك أثر في الآخر يبدل وجهته ويغير ديباجته - ذلك مالا خلاف فيه. أما ما اشتجر فيه الرأي وظهر الخلف: فأيهما يسبق الآخر فيمهد له الطريق ويعبد له المسلك؟ وأيهما أبلغ أثراً في الآخر؟ وفي هذا نسوق الحديث:
فجمهرة الأدباء على أن التاريخ الأدبي يسبق السياسي والاجتماعي: فينهج له السبيل، ويمهد له المنبت: فينشأ قوياً أو ضعيفاً، منتجاً أو عقيماً، حسبما تهيأ له.
وأغلب الظن أن هذا القول على إطلاقه لا يقصد به أن يكون قاعدة يعتبر ما شذ عنها استثناءً؛ ذلك بأن استقصاء تواريخ الأمم وتقريه يقف بنا في مراحل عدة نجد فيها التاريخ السياسي والاجتماعي سابقاً للتاريخ الأدبي، مؤثراً فيه أثراً عليه طابع السياسة وسمتها. بحيث لا يسع مؤرخ الأدب إلا أن يعترف بفعل السياسة فيه، وأثرها في أكثر مظاهره ونواحيه؛ ونزول الأدب على حكم السياسة، وكثرة هذه المراحل لا نطمئن معها إلى القول بأنها استثناء للقاعدة، ولعل من الخير ألا نقرر قاعدة بعينها في تحديد هذه العلاقة.
فالأمم الحية القوية التي نالت حظاً من الحضارة والحرية، إذا وقع فيها انقلاب سياسي أو اجتماعي، أو قلبت صفحة جديدة في سجل حياتها السياسية قل أن يحدث فيها هذا الانقلاب دون أن تسبقه نهضة أدبية تهيئه للوجود، وتعده للنهوض بما تفعل في الشعب من إيقاظ الشعور حتى الإحساس بضرورة التغيير، وحفز الهمم حتى تصدق العزائم على المضي إلى الغاية، وتمحيص الرأي حتى لا يتعثر في درجه مع سيل الحوادث.
ذلك فضل الأدباء والشعراء والخطباء والكتاب، وموضع الأدب هنا موضع السابق من المسبوق، والمتبوع من التابع.
ولا نغفل هنا أن الأدب لا يكتفي بالسبق، ولا يقنع بالقيادة: بل إنه ليلقى الانقلاب السياسي في الميدان بعد أن أفسح له الطريق فيدارجه ويرعاه بما يقويه، ويبعث النشاط في نواحيه، ويهدي الأمة في جهادها فيه، ويقف التاريخ السياسي والاجتماعي حيث قدر له أو حيث أراد، ولكن التاريخ الأدبي لا يقف عند هذه الغاية. بل يسير بعد ذلك ويمتد أثره: فما يزال أهل الأدب بعد الحدث السياسي أو الاجتماعي يحبُون الأمة بفضلهم، ويتعهدونها ببرهم، ويخرجون لها جميل آثارهم، ونتاج قرائحهم: يتحدثون عن الماضي وما كان فيه، ويذكرون الحاضر، ويستشرفون بالأمل في المستقبل، فتربو ثروة الأدب وتنمو. ويتسع مجال القول، وتخلد للأمة آثار تبقي ما شاء الله على تطاول الزمن.
ولا نُغفل كذلك أن الأدب في هذا الوضع يفضل السياسة من حيث ما تفيد الأمة من كليهما: ذلك بأن الانقلاب السياسي أو الاجتماعي غير مأمون العاقبة: فالأمة في سبيلها إلى الغاية السياسية أو الاجتماعية التي تقصد إليها يعرض لها ما يعرض للضاعن في طريقه: فقد تعيا فلا تصل إلى الغاية، أو تتكاءدها عقبات تحول دون الفوز بالمقصد؛ وقد تهب عليها من أية ناحية إعصار وأنواء تصدف بها عن المحجة، وتلوي بها عن القصد، وتضلها عن السمت، فلا تبوء الأمة بعد جهادها الطويل أو القصير إلا بالفشل فيما قصدت إليه، وخسران الأنفس والأموال فيما سمعت له، بَلْهَ جزيرة ذلك على حاضرها ومستقبلها.
أما النهضة الأدبية فقاعدتها بقاء الأصلح. وحكمها فناء السقيم: فمتى نهض أهل الأدب وبرزوا للناس بفضل أقلامهم فذلك هو الخير الذي لا سبيل إلى التشكك فيه من حيث هو ثروة وعتاد في الأدب. والبقاء مكفول لهذه الثروة ما بقي في الدنيا أدباء ومؤرخون؛ ولا بقاء للأدب الرخيص فإنه يذهب جفاء في اللحظة التي يظهر فيها للوجود. ومهما تكن النتائج السياسية أو الاجتماعية التي مهدت لها النهضة الأدبية أو كانت سبباً فيها فهذه النهضة الأدبية لها قيمتها في ذاتها وفيها خيرها من ساعة ميلادها: لا يغض من شأنها، ولا ينقص من قدرها، ولا تمتد إليها يد غاصب، ولا تعبث بها يد ظالم. ولا نقصد بقولنا إن الأدب الرخيص أو السقيم لا يقوى على الحياة أن أدب الأمة ما بقي لا يكون إلا قيماً ثميناً، إنما قصدنا إلى أن الأدب في فضله وما يتروى الناس منه كالكنز يخرج من بطن الأرض له قيمته وقدره، وقد يكون الكنز ذهباً أو فضة أو معدناً دون الذهب والفضة، ومهما يكن من شئ فهو ثروة لها قدرها ووزنها.
ولكن هناك شروطاً لا بد من وفائها حتى يفيض الأدب فضلاً على أمته، ويبلغ القصد من محجته، في هذا الوضع الذي بيَّنا: أولها أن تكون في الأمة حياة أدبية تثبت وجودها قبل الأحداث السياسية، وتستطيع أن تشق طريقها في ظلمات الانقلاب، وتسلك نهجها تحت عواصف الثورة، وتقوى على البقاء بعد أن تهدأ العاصفة؛ وثانيها أن تكون الأمة موفورة الحق في المتعة بحرية القول والبيان عن جدارة واستحقاق فلا تكتم عن الحق أفواه الخطباء، ولا تكتم عن الصدق أنفاس الشعراء، ولا تزم عن الكتابة أنامل الكتاب. وثالثها: أن يكون سواد الأمة مثقفاً ثقافة أدبية؛ فبغير هذا لا ينبت لأهل الأدب زرع، ولا يدر لهم ضرع، ولا يصيخ لهم سمع. وأقرب المثل لهذا الوضع وهذه النتائج الثورة الفرنسية ونهضة الأدباء قبلها وأثناءها وبعدها. وذلك مالا يحتاج إلى بيان.
أما الأمم الواهنة المستضعفة فالعلاقة بين تاريخها السياسي والاجتماعي وتاريخها الأدبي مضطربة متبلبلة، لا تسير على نهج واضح، وتنقطع حيناً وتتصل حيناً، وتضعف وتقوى؛ ذلك بأنها لضعفها واستكانتها وفرط ما كرثتها الحوادث تسلم سجل تاريخها السياسي للقدر، أو لمن بيده أمرها؛ يقلب صحافته كما يشاء، ويمحو ويثبت فيه ما يشاء. فلا موضع للقول بأن لأدبائها أو لتاريخها الأدبي أثراً في خلق انقلاب سياسي فيها، أو التمهيد له، أو تقويته، أو تعهده. فإذا حدث فيها انقلاب سياسي فهو في أغلب الأحيان مقطوع الصلة بحالتها الأدبية؛ على أنه إذا جد الجد، وقويت حركة الانقلاب السياسي وغلت مراجله حتى تنفست عن ثورة حادة، أو ما يشبه الثورة الحادة، فقد يؤثر ذلك في تاريخ الأمة الأدبي، فيطلق الألسنة من عقالها، ويمد القرائح بغذائها، فتنطلق في الجو صيحات تكون خافتة في مبدئها، وتستسلم بعد ذلك للأقدار، فأما أن تقوى وتشتد، وأما أن تضعف وترتد.
وهنا نرى للأدب فضلاً آخر لا يجوز إغفاله: ذلك بأن الأمة التي وصفنا قد تعوزها في جهادها السياسي وسائله وعدته، أو يقعد بها ضعفها عن النهوض له فتستخذى وتستسلم لضعفها أو قوة غلبها. أما أهل الأدب فلا ينضب لهم معين، ولا يقفر بهم منبت، فهذه الظلمات المحيطة بالأمة ينسجون من خيوطها شعراً، وهذه صخور الظلم والاستعباد يفتتونها بأسنة الأقلام ويبسطونها للناس نثراً، ومن هذا يحاولون إحياء شعور أماته الظلم، وإثارة همم قعد بها الخنوع. وقد يفلحون فيصلون بالأمة إلى غاية سياسية محمودة، وقد يخفقون ولكن بعد أن يتركوا للأمة ثروة أدبية؛ ولا تنس أن جهادهم شاق وعسير، وأن بلاءهم مرهق ومرير.
وهنا نجد التاريخ السياسي سابقاً ومتبوعاً، والتاريخ الأدبي لاحقاً وتابعاً؛ والأول مؤثر في الثاني أثراً قوياً أو ضعيفاً، وقد يبرز الأول في الميدان فلا يتبعه الثاني ولا يجاريه، وإن تبعه ففي تؤدة ووناء. على أنه يشترط أيضاً في هذه الحالة أن تكون الأمة مثقفة إلى حد معين حتى تستطيع في وسط هذا المضطرب أن ترى قبس النور ينبعث من قصبات الأقلام فتمشي على هداه، وأن تسمع صوت الحق من الخطباء فتلبي نداه. ذلك أن أتيح للأديب أن يكتب، وللخطيب أن يخطب.
ولا يتداخلنا العجب من أن يسبق التاريخ السياسي ويتقدم والمثل أمامنا واضحة بينة. فتاريخ الأدب الإسلامي إنما تأثر بما سبقه من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية كان من مظاهرها نشوء الأحزاب السياسية وما فتح الله للمسلمين من بقاع الأرض؛ ذلك أثر في العقلية العربية فغير في أسلوب الشعر والخطابة والكتابة وموضوعاتها تغييراً ظاهراً. وأقرب من هذا المثل تلك الحرب الأوربية التي اندلعت نارها في الغرب، وامتد لهيبها إلى الشرق، فحركت النفوس وحفزت الهمم، وأثارت المطامع، وأبرزت في الشرق طبقةصالحة من الكتاب والأدباء، ما زالوا يعملون وما زال الشرق يرجو من غيثهم خيراً في الأدب وفي السياسة؛ أليست هذه نهضة أدبية قامت على أثر حركة سياسية؟
وليس سبق التاريخ السياسي على الأدبي قاصراً على الأمم الضعيفة أو المستضعفة، فقد يقع هذا في الأمم القوية كما يتضح من أثر تلك الحرب في الغرب، وأكثر أممه قوية متحررة، فقد تقدمت الحرب وأحداثها، ثم تبعها تغيير في الآداب من حيث الأسلوب ونظام القصة وطريقة التفكير، وكان تغييراً مستوياً كاملاً قوياً، بل كان نهضة حادة فتية.
أليس من الخير بعد هذا ألا نلتزم قاعدة بعينها نجري على سننها الأدب والسياسة ونقيد بها موضع أحدهما من الآخر وأثره فيه؟
ذلك ما أراه في هذا البحث، فإن رأى أئمة البيان وأهل الأدب غيره وجلوا لي وجه الصواب وبصروني مساقط الرأي فإنني لشاكر وسعيد.
اليوزباشي أحمد الطاهر