الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 123/أبو العيناء

3 - أبو العيْنَاء بقلم محمود محمود خليل لقد مات المأمون؛ ولقد حزن أبو العيناء حقاً عليه، حتى بكى بكاء مراً، وتقرحت عيناه؛ ويظهر من بكائه وحديثه عنه أنه راعا حق النعمة، وقام بإسداء الشكر لصاحبها، حتى بكاه بعد وفاته؛ وسواء أكانت خلة الوفاء موجودة فيه وهو ما لا أظنه، أم كان بكاؤه هذا لمنفعة شخصية فاتته، وخاف من انقطاع الرزق الذي أجراه عليه المأمون من بيت المال، فإن هَمَّ ضمان قوته كان يخالج فؤاده، ويخشى من يأتي بعده. ولقد تحققت مخاوفه، فإن عهد المعتصم والواثق لم يظهر فيه شأن أبي العيناء كثيراً، ويرجع هذا إلى الخصومة التي كانت قائمة بين الوزير في ذلك العهد محمد بن عبد الملك الزيات، وبين القاضي أحمد بن أبي دؤاد، تلك الخصومة التي اشتدت إلى درجة كبيرة، حتى جعلت ابن أبي دؤاد يأنف أن يقوم عند دخول ابن الزيات، وكان قد أوجب الخليفة الواثق أن ينهض قياماً له جميع الحاضرين في المجلس، ولم يرخص في ذلك لأحد، فاشتد الأمر على القاضي، ولم يجد لمخالفة الواثق سبيلاً، فالتجأ إلى حيلة لطيفة تخلصه من ذلك الموقف الحرج، فوكل بعض غلمانه بمراقبته، وموافاته بخبر قدومه، فإذا أقبل نهض يصلي، فقال ابن الزيات في ذلك: صلى الضحى لما استفاد عداوتي ... وأراه يمسك بعدها ويصوم لا تعدمَّن عداوة موسومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم ويرجع سبب هذه العداوة إلى المنافسة في الرياسة التي كانت بين هذين الرجلين الفذين. لم يقف أبو العيناء إزاء تلك العداوة موقف الحياد، بل انضم إلى القاضي ابن أبي دؤاد، فأبعده هذا إلى حد ما عن مجلس الخليفة المعتصم والواثق ووزيرهما ابن الزيات؛ وقد انقسم الأدباء أيضاً إلى حزبين، حتى رأينا الجاحظ يميل إلى ابن الزيات ويكون من حزبه. ولقد سأل أبو العيناء الجاحظ مرة أن يشفع لصاحب له عند ابن الزيات، فكتب الجاحظ الكتاب، وناوله الرجل، فسار به إلى أبي العيناء، وقال له: قد أسعف بالمراد، قال: فهل قرأته؟ قال: لا. إنه مختوم. قال: ويحك فُضَّه لا يكون صحيفة المتلمّس؛ ففَضَّه فإذا فيه: موصل كتابي هذا سألني فيه أبو العيناء، وقد عرفتَ سفهه وبذوء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلاً، فإن أحسنتَ إليه فلا تحسبه عليَّ يداً، وإن لم تحسن إليه لم أعده عليك ذنباً والسلام. فركب أبو العيناء إلى الجاحظ، وقال له: قرأت كتابك يا أبا عثمان، فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء هذه علامتي فيمن أعتني به، قال: فإذا بلغك أن صاحبي قد شتمك فاعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه. وصلت العداوة إذن بين الكاتبين القديرين الجاحظ وأبي العيناء، وكان هذا أثراً لتشيع الحاشية وانقسامها على نفسها كما سبق؛ وها نحن أولاء نرى أبا العيناء يغشى مجلس القاضي ابن دؤاد في تلك المدة، ويتودد إليه، ويروي عنه أحاديث كثيرة آثرنا أن نثبت منها شيئاً؛ قال أبو العيناء للقاضي: إن قوماً من أهل البصرة قدموا إلى (سُرّ مَنْ رأى) يداً على، قال: يد الله فوق أيديهم، فقلت: إن لهم مكراً، فقال: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقلت: إنهم كثير، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، فقلت: لله در القاضي، فهو كما قالت الصموت الكلابية: لله درك أي جُنة خائف ... ومتاع دنيا أنت للحدثان متخمط يطأ الرجال شهامة ... وطء الفنيق مدارج القِرْدان ويكبهم حتى تظل رءوسهم ... مشجوجة تنحطّ للغربان ويفرّج الباب الشديد تاجُه ... حتى يصير كأنه بابان وقال أبو العيناء: كنا عند القاضي ابن أبي دؤاد في جماعة من أهل العلم والأدب، فوفد عليه رسول الحاجب أبي منصور يقرئه السلام ويبلغه ألا يقصد القاضي إلى الحاجب، لأن ذلك يضر بسمعته عند الوزير ابن الزيات، فقال القاضي: أجيبوه عن رسالته، فلم ندر ما نقول، ونظر بعضنا إلى بعض، فقال: أما عندكم جواب؟ قلنا: القاضي أعزه الله أعلم بجوابه منا، فقال للرسول: اقرأ عليه السلام، وقل له ما أتيتك متكثراً بك من قلة، ولا متعززاً بك من ذلهٍ، ولا طالباً منك رتبة، ولا شاكياً إليك كربة؛ ولكنك رجل ساعدك زمان، وحركك سلطان، ولا علم يؤلف، ولا أصل يعرف، فإن جئتك فبسلطانك، وإن تركتك فلنفسك. فعجباً من جوابه. على أنه لا يغرنا مجالسه أبي العيناء للقاضي، فإنه قد وقعت بين الرجلين خصومة، فكان لا يرحمه فيها أبو العيناء، مما يدلنا على أنه كان من الرجال النفعيين الذين يؤثرون المنفعة الشخصية على تلك الصداقة التي لا تفيده شيئاً من المال الذي يحبه ويفضله على كل عزيز وحميم. ولكن ينبغي إلا نفهم من هذا أن أبا العيناء انضم إلى حزب ابن الزيات. كلا. بل أبغض الرجلين جميعاً، وذمهما معاً، وهذا حديث طريف أتى به صاحب زهر الآداب وقد آثرت أن آتي بجزء صالح منه حتى يكون معيناً لنا على الوقوف على مقدار بلاغة الرجل وأسلوبه في الكتابة. قال أبو العيناء: لما حبس الواثق إبراهيم بن رباح، وكان له صديقاً، صنعت له هذا الخبر راجياً أن ينتهي إلى أمير المؤمنين فينتفع به؛ ولقد سمعه الواثق فضحك واستظرفه، وقال ما صنع هذا كله إلا أبو العيناء بسبب إبراهيم بن رباح، وأمر بتخليته. والخبر هو: قال لقيت أعرابياً من بني كلاب، فقلت له ما عندك من خبر هذا العسكر؟ قال قتل أرضا عالمها؛ قلت فما عندك من خبر الخليفة؟ قال بخبخ في عزه، وضرب بجرانه، وأخذ الدرهم من مصره، وأرعف قلم كل كاتب بجنايته؛ قلت فما عندك في أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: عضلة من العضل لا تطاق، وجندلة لا ترام، ينتحي بالمدى لتنحره فيجوز؛ وتنصب له الحبائل، حتى تقول الآن، ثم يطفر طفرة الذئب، ويخرج خروج الضب؛ والخليفة يحنو عليه، والقرآن آخذ بضبعيه. قلت فما عندك من خبر ابن الزيات؟ قال ذلك وسع الورى شره، وبطن بالأمور خيره، فله في كل يوم صريع، لا يظهر فيه أثر ناب ولا مخلب، إلا بتسديد الرأي. قلت فما عندك من خبر إبراهيم بن رباح؟ قال ذاك رجل أوبقه كرمه، وإن بقره للكرام قدح، فلا عزّ بهجائه؛ ومعه دعاء لا يخذله، ورب لا يسلمه، وخليفة لا يظلمه. ثم يأخذ في الحديث عن شأن أناس كثيرين من رجال الدولة مثل الخصيب والحسن بن وهب وأخيه سليمان، وهذا لا يعنينا في شيء لأننا لا ندرس أولئك الرجال الآن، ثم يقول قلت له: أين نزلت فأؤمك؟ قال مالي منزل تؤمه، أنا أستتر في الليل إذا عسعس، وأنتشر في الصبح إذا تنفس. ويلوح لي أن تلك الأحاديث هي التي فتحت باب المقامات، وأوجدت الفكرة الرئيسية فيها، حتى نسج على منوالها بديع الزمان الهمداني والحريري فيما بعد. قد عادى أبو العيناء ابن أبي دؤاد، ولكنه لم يمض في الخصومة إلى حد كبير، بل حفظ له جميل كرمه وقضاء حوائجه التي كثيراً ما كان يضايقه بها إبقاء على وده وصداقته ما دامت تجر عليه المنفعة حينا. قال له المتوكل يوماً: من أسخى من رأيت؟ قال ابن أبي دؤاد، فقال المتوكل تأتي إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع من المواضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود، لأن سخاء البرامكة منسوب إلى الرشيد، وسخاء الفضل والحسن ابني سهل منسوب إلى المأمون؛ فإذا نسب الناس الفتح وعبيد الله ابني يحيى بن خاقان إلى السخاء، فذلك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال صدقت. فمن هذا نعلم مبلغ تلك الخصومة وأنها كانت طفيفة، ويظهر أن سببها كان عدم إجابة طلب لأبي العيناء أو قبوله شفاعته، أو نحو ذلك من الأشياء التي كان يتطاول بها أبو العيناء على الرؤساء. دامت المنافسة على الرياسة بين ابن الزيات وابن أبي دؤاد مدة خلافة المعتصم والواثق حتى تولى المتوكل، وفي السنة الثانية من خلافته نكب ابن الزيات وأحرقه في التنور، وخلا الجو بهذا لحزب ابن أبي دؤاد، ووجد أبو العيناء الميدان أمامه فسيحاً، فاتصل بالمتوكل وحصلت له معه مجالس أدخل الرواة بعضها في بعض؛ ويظهر أن أعداءه قد وشوا به إلى الخليفة كي يوقعوه فيما وقع فيه ابن الزيات، ولكنه بفصاحته وذلاقة لسانه نجا. قال له المتوكل: بلغني أنك رافضي، فقال يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وليس يخلو القوم أن يكونوا أرادوا الدين أو الدنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع الناس على تقديم من أخروا، وتأخير من قدموا وإن كانوا أرادوا الدنيا، فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك. وكانت تلك الوشاية كفيلة بأن تقضي عليه، لأن المتوكل كان يكره الرافضة الذين يدينون بحب علىّ بن أبي طالب (ض) ولكنه تخلص بذكائه. ودخل أبو العيناء المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له الخليفة ما تقول في دارنا هذه؟ فقال يا أمير المؤمنين إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. فاستحسن كلامه وقال: كيف شرابك للخمر؟ قال أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره؛ فقال له الخليفة دع عنك هذا ونادمنا، فقال لا أطيق ذلك، وما أقول هذا جهلاً بمالي في هذا المجلس من الشرف، ولكني رجل مكفوف البصر، وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض، وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء. قال صدقت، ولكن تلزمنا، قال لزوم الفرض الواجب اللازم. فوصلني بعشرة آلاف درهم. تلك كانت منزلة أبي العيناء عند المتوكل يتمنى أن ينادمه، ويود ولو بجدع الأنف أن يتاح له حضور شخص فكه المحاضرة، عذب الحديث كأبي العيناء في مجلس شرابه، وقد كان المتوكل يمزح معه كثيراً قال له مرة: هل رأيت طالبياً حسن الوجه قط. قال يا أمير المؤمنين أرأيت أحداً قط سأل ضريراً عن هذا! قال لم تكن ضريراَ فيما تقدم، وإنما سألتك عما سلف؛ قال نعم رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه. قال المتوكل: تجده كان مؤاجَرا، وتجدك كنت قوادا عليه، فقال أبو العيناء: أو فرغت لهذا يا أمير المؤمنين، أتراني موالي على كثرتهم، وأقود على الغرباء، قال اسكت يا مأبون! قال مولى القوم منهم، قال المتوكل أردت أن أشتفي منهم، فاشتفى لهم مني. على أن عدم قبول أبي العيناء لمنادمة المتوكل قد عصمه إلى حد ما من القصف والمجون اللذين كان يجري في قصر الخلافة، وإن كنت أعتقد أن شخصاً متوقد الذكاء كأبي العيناء قد حمى نفسه من معاقرة الخمور، خوفاً من أن تضيع عقله، وتغلب على لبه، فيخرج عن صوابه، وهو ما كان يأباه على نفسه، فجوابه إذاً للمتوكل حين سأله عن الشراب بقوله: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره لم يكن للتخلص من منادمته، وإنما كان صادقاً في هذا القول، وإن كان قد ذهب إلى الإستمتاع بملذات الحياة من غير طريق الشراب، كلما حان له ذلك، ولكن ذهابي إلى هذا الرأي ليس معناه تنزيه أبي العيناء وجعله في عصمة الأنبياء والصديقين بل ربما يكون قد شرب ونادم وأفرط في الشراب وأخذ بحظه من اللهو والمجون مع غير المتوكل، لكنني لا أميل إلى اتهامه بأنه كان من المعاقرين للشراب والمدمنين على قرع الكؤوس، كالمتوكل أو وزيره الفتح بن خاقان مثلاً، كلا. وإنما كان لا يميل إلى تعاطي الكثير من الخمور لأنها تجره إلى الإفتضاح كما يقول. (يتبع) الزقازيق محمود محمود خليل