مجلة الرسالة/العدد 122/منازل الفضل
→ بين المعجزة والعلم | مجلة الرسالة - العدد 122 منازل الفضل [[مؤلف:|]] |
فُجور القانون ← |
بتاريخ: 04 - 11 - 1935 |
2 - منازل الفضل
دار علي مبارك باشا
للأستاذ محمد محمود جلال
من الأسماء ما يخف على سمعك لمجرد تركيبه ووقع نغمه في الأذن، ومنها ما يعجبك لمعنى يشير إليه؛ وقد يعجبك الاسم وقد خلا من هذين إعجاباً بشخصية قدَرت في التاريخ دورها؛ وقد يكون من بين الأسماء ما ينفر منه السمع، وهو مع ذلك حبيب إلى نفسك لذكرى تتصل به أو جميل أردفته بالعرفان.
ويقص المتشيعون للعلاقة بين الاسم والمسمى من علماء اللغة أن أحدهم سأل إعرابياً عن معنى (أذغاغ) فقال الإعرابي وهو لا يعرف من الفارسية شيئاً: (أرى فيه يبساً وصلابة، ولعله الحجر).
وليس للطفولة أن تسمو إلى شئ من ذلك البحث أو ذاك القياس، وإنما يسبق فيها الإحساس بالمعرفة، فما نظرت إلى شيء من ذلك يوم كان (شارع علي مبارك باشا بالحلمية) أحب الشوارع إلي سنة 1908، فكنت أخصه بروحاتي وغدواتي، وأختص (اليافطة) أول سيري به بتجربة قدرتي على قراءة اليفط والخط المشبك.
سكنا الحلمية بعد أن هجرنا دارنا الأولى بدرب الجماميز حيث مأمورية الأوقاف الآن، على أثر خلاف بيننا وبين ديوان الأوقاف على حيازة القطعة المجاورة لتوسيع الدار بطريق البدل، ولا أجد اليوم تعليلاً معقولاً لتفضيلي إلا بالصلة التي توجدها النشأة، وقد نشأت في الريف، ومن أسرة فلاحة، واسم علي ومبارك كثيراً الشيوع في الفلاحين، فلم يكن عجيباً أن يكون هذا الاسم أقرب إلى النفس وأسهل في الحفظ من أسماء ندر أن نسمع بها (كسنجر الخازن) و (الأمير يوسف) وغيرهما.
أجل لم يكن بذلك الشارع بائع (سوداني) ولا شوكولاته، ولم تكن حوانيت الساندويتش انتشرت بعد، حتى أرد التفضيل إلى تلك المغريات في سن الطالب.
وفي عام 1911 أهدتني الجمعية الخيرية الإسلامية مجموعة ثمينة من الكتب لنجاحي من الفرقة الثالثة في الشهادة الأبتدائية، كان من توفيق الله أن ضمت بين دفتيها (تاريخ علي مبارك باشا) ولن أنسى ما حييت غبطتي بهذا الكتاب، وذكرت على التو شارع علي مبارك باشا، وقلت: إذن فهذا رجل له في تاريخ البلاد شأن!
عكفت على القراءة مبتدئاً به، وخفق قلبي حين وقفت في أوله على نشأة (علي مبارك) فصدق ظني، فهو فلاح وابن فلاح مثلي، فلم أترك الكتاب حتى جئت على آخره، وأعدت قراءته مرات حتى كدت أحفظه عن ظهر قلب إذ ملئت إعجاباً بالرجل.
سميت المرحوم محمد شريف باشا حين كتبت عنه (رجل البرنامج)، وليس اليوم أحق بأن يسمى (رجل الواجب) من المرحوم علي مبارك باشا.
رأى صديقي المرحوم محمد رمضان بك القاضي السابق بالمحاكم الأهلية حين زار (فينا) عقب الحرب أحد ضحاياها (جول) يزحف وقد بقيت له ساق واحدة وذراع واحدة، وبيده الوحيدة مكنسة ينظف بها الرصيف، فسأله عن قصته.
قال جان: إنه كان يعمل في التحاليل الكيميائية، ويؤدي بذلك واجبه نحو بلاده وأسرته، وانخرط في سلك الجندية يؤدي واجبه نحو بلاده وأسرته، فلما فقد ساقه وجد مجال الواجب في عنابر الجيش يلف ويرتب بيديه، ولما فقد إحدى اليدين وكانت الحرب في نهايتها اشتغل كناساً، فهو بعد لا يستريح ضميره أن يكون من العاطلين، ومن بين إخوانه من هو أحق منه بالإعانة والإعاشة، وليس أحب إلى نفسه من أن يقوم بالواجب ويعيش من أداء الواجب، فليس فرق عنده بين المعمل والصفوف، ولا بين العنابر وكنس الرصيف!!!
حيَّاه صديقي عليه رحمة الله، وكتب عنه مقالاً كاملاً يذيع نبل نفسه ويضربه مثلاً لقومه.
وكذلك كان علي مبارك باشا، فهو من نوابغ البعوث العلمية في أول البعوث، وهو المبرز بين أفراد بعثته، وبلاده في حاجة إلى أمثاله، وفي حاجة أشد إلحاحاً إليه؛ ولكن لا زهو ولا صلف ولا استكانة! فالحاجة إليه يراها نعمة الله تستوجب الشكر، والعلم الذي يقدره الناس فيه يراه الثروة التي زكاتها البذل منها في خير البلاد.
ومن لم يجمّل فضله بتواضع ... يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر
كان علي مبارك باشا (ناظراً) وزيراً للأشغال يسيطر على أكبر الإدارات صلة بحياة البلاد ومرافقها، يضع الخرط وينظم حفر الترع والجسور التي طالما أحيت مواتاً ودرت أخلاف الرزق على الملايين وتركت اليباب مزارع وحقولاً، في أول عهد البلاد بزراعة منظمة وري منظم.
وبينما هو غارق فيما نعده اليوم أبهة المنصب، ينقل لسبب أو لغير سبب، لغضب أو لتقدير موهبة منتدباً لإصلاح طابية وهو من خريجي المعاهد الحربية، فينتقل قرير العين وكأن العالم صور فانحصر في تلك الطابية لا يرى أمامه إلا أن يُعِدَّها كما يجب أن تعد تقديراً لأمانة العلم وقياماً بالواجب.
ولي علي مبارك باشا في وقت ما وزارتين، وجيئ به وقتاً آخر يشرف على مد خط حديدي ليس أكثر من كبير مهندسين، جاءت خطته وأوضاعه وتنفيذ مشروعه آيات في حسن الوضع والتنفيذ؛ ولم يكن علي مبارك باشا ذو الوزارتين غير علي مبارك صاحب عيشة الخيام في براري البلاد يوطد أركان الدفاع عنها، ولا غير ذلك الرجل الهادئ رجل الواجب، يضع من قطع الحديد وصلاً لبلاد الريف وقراءة وتقريباً للشقة وتيسيراً لأمور الخلق، فهو إنما يعيش لبلاده، وإنما يخدم بلاده، وإنما يخدمها حيث يوضع، ويستثمر كفاءته في أي مجال. طريقته واحدة ونظرته واحدة، وهدفه واحد: الواجب.
وإنك لترى اليوم من شبابنا من ينقل من وظيفة إلى أخرى دون أن يمس راتبه ودون أن تمس درجته، فهو لا يكتفي بالشكوى والضجيج والإلحاح حتى يسمم عمله الجديد آثار غضبه ويأسه ولا يعيش إلا بخيال واحد وأمل واحد: أن يتغير العهد ويعود له ما كان فيه، بينما يقاسي المحكومون ممن تتصل أحوالهم بعمله ألواناً من البطء في شؤونهم وكثيراً من عنت لا ذنب لهم فيه.
هذه الظاهرة وحدها من سيرة (علي مبارك باشا) درس قيم في الأخلاق وتراث زاخر، وموعظة لهذا الجيل بالغة.
أما عمله في وزارة المعارف ففي كل ركن من أركان التهذيب والتثقيف له أثر عميق، كان لا يني عن زيارة المدارس زيارة لا يسبقها إعلان ولا شئ من جلبة الرسميات، ولو خلت من هذا وحده لكانت بذلك كافية في معنى الرقابة وما يتصل بالحرص على الواجب من الوقوف على درجة التقدم وعيوب التنظيم.
لكنها لم تقف عند ذلك الحد، فكان عليه رحمة الله يسأل أكثر من طالب في كل فرقة وفي أي مادة يتفق تدريسها مع ساعة الزيارة، وطالما كان له جولات في مختلف العلوم مع من يزورونه من الطلبة في الديوان سواء لرفع شكاة أو تبيان مصلحة.
هكذا كان علي مبارك باشا. فانظر إذن وتخيل ما تكون عليه دار أسعدها الله بسكنى رجل الواجب.
كان عهده نادر المقاهي والسوامر والملاهي؛ وكانت الدور العامرة سواء في العواصم أو في الريف بدورها في صيانة الأخلاق وتكوين الجيل، والعلماء وقت ذاك قليل، وعلي مبارك بين القليل درة لامعة.
دار كانت بالوافدين والساعين إلى العلم أكثر ازدحاما مما ترى اليوم في جامعة أو في سينما، لكل فريق دور، والأدوار متعددة تنتهي بآخر السهرة من الليل لاختلاف أوقات الفضاء لصاحب الدار أو للوافدين.
دار طالما عمرت بصالح الحديث وبعدت بنازليها عن اللغو، فصفوة العلماء يبحثون ويباحثون، وللأدباء فيها نصيب كبير، وللطلاب النصيب الأوفر.
تزين الدار مكتبة جامعة، نصيب الرجل منها كنصيب أي واحد من قاصديه، وعليه هو القوامة على تنسيقها وحفظها، بل عليه أن يختار لكل ما يلائمه، يبذل من الكتب والمراجع كما يفيض من محفوظه وتجاريبه؛ وهل يستطيع علي مبارك إلا أن يكون واحداً في كل تصرفاته وفي روحاته وغدواته يقوده الواجب، وسيرته التماس النفع للبلاد؟
ولقد أعلم أن المرحوم (مصطفى كامل باشا) الذي ما زالت البلاد تعتز في ظل ما خلف إلى اليوم ما أحسن المحسن وما أساء المسيء، كان في شطر كبير من تكوينه العلمي أكبر حسنات تلك الدار، كما كان صاحب الدار أكثر الناس إعزازا للنجباء من أبناء البلاد، فمن نزح إلى أوربا يكمل تعلمه، لا يني في البحث عنه في العطلة الصيفية وفي عودته إلى الوطن، ولا تلبث الحلقات أن تعقد من أولئك الأنجاب في تلك الدار التي ازدهرت وقتاً ما فازدهرت بها حديقة العرفان وكللت جبين البلاد.
كانت مهمة الدار في أفق العلم مهمة الجامعات، فهي سيطرة رفيقة على تنظيم الثقافة وتوزيعها على قدر المختلفين إليها، وكانت فيما يمس الذين أكملوا دراستهم واسطة العقد، ووسيلة التعارف وأداة الوصل، كما كانت للنازحين في طلب العلم مرداً إلى عوارف الوطن، وجميل المدرسة الأولى، وخير مقرب بين الثقافتين، وخير قوام على تطبيق المعلومات وتهذيبها وصبغها بما يناسب صبغة البلاد.
أين تلك الدار؟ وأين كعبة العلم؟ ذهبت بها تصاريف الزمان وعفاها ما يشبه الجحود منا حكومة وشعباً، ومثلها مثل قصر أم المحسنين في حي الدوبارة، قامت أحجاره يسخر منها (قصر العار) وخلى من كل شيء إلا من نسيج العنكبوت.
بل إن للعلم عند الله كرامة! فلئن ذهبت رسوم الدار بين الرياح من جنوب وشمأل فقد أكرم الله نازلها وعامرها بهذا العفاء، فلعلها لو عاشت لظهرت غريبة ولأزرى بها انصراف مؤمن عنها وشماتة من دور قامت على الإساءة للبلاد والسخرية مما ينفع الناس.
يبحث إخواننا من أهل العراق عن (المثنى) ويقيمون باسمه نادياً، فهلا نسمع من شباب الجامعة عزماً على البحث عن مكان الدار وتسمية ناديهم باسم (علي مبارك).
إذا كان هذا عزيزاً على أنواء الزمن فهل نسمع في القريب أنهم زينوا إحدى غرف النادي أو قاعات البحث بالجامعة باسم الراحل الكريم؟!.
أيها الناس أكرموا السلف يكرمكم الخلف، فكما يدين الفتى يدان
الشيخ عطا
محمود محمود جلال المحامي