الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 122/الدكتور محمد إقبال

مجلة الرسالة/العدد 122/الدكتور محمد إقبال

مجلة الرسالة - العدد 122
الدكتور محمد إقبال
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 11 - 1935


فلسفته

معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب

للسيد أبو النصر أحمد الحسيني

إن أول مَن لَحِظَه التوفيق بين فلاسفة الغرب في أن يثبت بالدلائل القاطعة والشواهد الصادقة أن الإنسان لا يقدر على حل العقد المستغلقة والمعضلات الغامضة في هذه الكائنات بالعقل المجرد، هو الفيلسوف الألماني الكبير (كانت). وعلى هذا أثبت كانت عن طريق فلسفي ضرورة وجود الله ولزوم الإيمان به، وبرهن في مصنفه (نقد العقل العملي) على أن قواعد عقل الإنسان العملي ودعائم عمله ووطائد اختباره ثلاثة: حرية الإرادة، وخلود الروح، والإيمان. ووضح أن الإنسان لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن أعماله إذا لم يكن فيها بالخيار. لذلك كان (كانت) بكشف هذه الحقائق وأمثالها في عالم الفلسفة قد قام للإنسانية بخدمة عظيمة.

ونحن قد أبنا لك في المقال السابق أنه على حسب فلسفة إقبال أيضاً يكون لكمال الإنسان وتقدمه ثلاث دعائم: إحراز الغاية القصوى من الحرية والاختبار بنيل الأنانية العظمى، ونيل الخلود باتصاف الأنانية بحالة الجد المستمر، ثم بلوغ منزلة الخلافة الإلهية التي هي نهاية عليا لذلك الكمال والتقدم: فعلى هذا يتفق إقبال مع كانت في التصورات الثلاثة أساسياً، ويختلف عنه في أن ليس لدى كانت تصور الخلافة الإلهية. وأما تصور (كانت) الثالث وهو الإيمان فهو أساس جميع تصورات إقبال، لذلك لم يحتج إقبال إلى إثبات ضرورة وجود الله والإيمان به في فلسفته كما احتاج إليه كانت، ولأن مبدأ فلسفة إقبال الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. وآخر الجد المستمر الإيمان كما هو أوله، لأن الإنسان لا يقدم على عمل ويستمر فيه إذا لم يك مؤمناً بنتيجته ونجاحه فيه، وكذلك إقبال لم يحتج إلى إثبات قانون أخلاقي خارجي كما احتاج إليه كانت في بيان نظريته الأخلاقية، لأن قانون الأخلاق عند اقبال ينجم عن ضروريات الأنانية الباطنية، فكل شئ يقوي الأنانية عنده خير وحسن، وكل ما يضعفها شر وقبيح؛ فكأن أنانية الإنسان المتصفة بالجد المس عنده ضمنية لإنتاج ذلك القانون، فلا يحتاج إلى البرهان والدليل.

ويختلف إقبال عن كانت في أن اكتساب الحرية والاختيار ونيل الخلود والدوام في فلسفته ثمرة الجهد المستمر لا يفوز بها إلا الذي اتصفت أنانيته بتلك الصفة، أي الجد المستمر. فكل من رغب فيها وطمح ' ليها ينبغي له عنده أن يسعى لذلك بعزم وحزم لا يشوبها على الزمن خلل ولا وهن، وأما كانت فقد تصدى لفكرة الحرية والاختيار والخلود والدوام في فلسفته ليقول إن العدل جار في الكائنات وإنه يوجد فيها المطابقة بين الأعمال ونتائجها، وبين الأمور وعواقبها.

إن فلسفة إقبال فلسفة تفاؤل لأنه تخلق في الإنسان الأماني تتري، وتبعث فيه الهمة القصية المرمى، وتحفزه لبذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيقها بالمثابرة والمواظبة. فهي لذلك تخالف فلسفة التشاؤم التي كان أكبر أئمتها الفيلسوف الألماني شوبنهاور. كان شوبنهاور هذا متأثراً بأفكار البوذية الهندية، فنظر إلى العالم نظرة التشاؤم، وقرر أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، لكنها لا تقدر أن تملك لقصدها مشمولاً خاصاً يمكن أن يعرض عملياً في الذهن، لأن كل مشمول مثل هذا يتعلق بخارجها. فلذلك تملك الإرادة الكونية لقصدها نفسها، أي هي تريد لأن تريد. هي تريد لأن تكون حقيقياً، فإن كل شئ حقيقي ليس إلا الإرادة الممثلة. فبهذا المفهوم سمى شوبنهاور تلك الإرادة (إرادة الحياة)، ورأى أنها جوهرياً شر، فإنها لا يمكن أن تقع؛ هي ألم. هي ألم غير القانع؛ وعلى هذا فالحياة حمأة الطموح الذي لا يشبع، وثورة التوقان الذي لا يقنع. لذلك كانت نهاية الإنسان دائماً في الشكوى، ولن يتم له حسن الحظ أبداً. ولكن إقبالاً يرى أن سوء الحظ وآلام الحياة أكثر فائدة للإنسان إذ بها تربى أنانيته وتدرب، فيطأ بها أعراف المجد، ويتسور شرفات الكمال؛ ثم شوبنهاور ينكر الفردية أي وجود الأشياء المنفردة أو (الإرادات المنفردة) كما يقول، ويرى أنها وهم تتوقف على الفروق الزمنية والمكانية، بينما أساس فلسفة إقبال هو الفردية.

أما من يوجد بين فلسفته وفلسفة إقبال معالم المشابهة وملامح المماثلة أكثر فهو الفيلسوف الألماني الكبير نيتشه. والمزية الكبرى لنيتشه هذا بين فلاسفة الغرب أن عبقريته صبغت الفلسفة بصبغة الإلهام، ولم تكتف في المباحث الفلسفية بانتقاد الفن، بل أتت للعالم بمقياس جديد للحسن والقبح، والخير والشر. وفلسفته ثمرة مزيج من أفكار كانت، وشوبنهاور، وداروين. فقد استنبط من نظرية العلم لكانت أن ليس هناك شئ يقال له علم، بل كل شئ خيال ووهم، وذلك لأن الحقيقة لا يكشف عنها بل تُخلق، ولا يبحث عنها بل تُخترع، وهو أيضاً قد قرر مثل شوبنهاور أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، ولكن ليست (إرادة الحياة) كما رأى شوبنهاور بل (إرادة القوة)، وهي عنده مصدر كل خير وفلاح كما أن (إرادة الحياة) عند شوبنهاور منبع كل شر وخسران. وما أحسن قول البعض أن ما يراه شوبنهاور شيطاناً يراه نيتشه إلهاً.

يرى نيتشه أن (إرادة القوة) هذه دافع قويّ غريزيّ سارٍ في الكائنات، فهو مركز الحياة الإنسانية، بينما إقبال يرى أن مركز حياتها هي الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. ولكنهما يتفقان في أن خوض غمار الآلام ومكابدة المصائب، ومعاناة النوازل، مما لا محيص عنه لصعود الإنسانية في معارج الشرف ولبلوغ تقدمها غاية الكمال. ويتفقان أيضاً في أن هذا العالم المادي هو ذريعة إلى تلك البغية ووسيلة إلى ذلك المطلب، وأن الفن يجب أن يكون ملتقى الجمال والقوة كما يتفقان في أن فلسفة الأخلاق المسيحية غير وافية لضروريات تقدم الإنسان وتسمنه ذروة الكمال. غير أن نيتشه قدح فيها قدحاً شديداً وانتقدها انتقاداً لاذعاً وصرح بأن المسيحية تدعو إلى (أخلاق العبيد) في حين أن إقبالاً اكتفى بالإشارة إلى أنها غير مفيدة للإنسانية لأنها لا تقدر على إماطة اللثام عن قواها الخفية، ولا على الكشف عن استعداداتها المكنونة، وذلك لأنها تدعو إلى الرهبة وترك العالم. وبناء عليه فدعوة إقبال خلاف ذلك كما قال في بيت ترجمه:

غص في البحر وحرب الأمواج ... فإن خلود الحياة في المحاربة

يتفق إقبال ونيتشه في تصور كمال الإنسانية؛ بيد أن نيتشه يراه ممثلاً في سوبرمان (أي فوق البشر) وإقبال يراه في خليفة الله. والفرق الأساسي بين تصوريهما هو أن نيتشه ينكر وجود الله ويقول: (اقتلوا الله! كل شئ مباح. إن الطبيعة والدوافع الطبيعية ليست شراً. ابْعدوا الحياء والكظم! ابْعدوا الأدب والتقيد! إن أخلاق الرجل الحر ستكون الأخلاق المعبرة عن الذات حقيقة)، وعلى هذا فسوبرمان نيتشه محصور في نفسه ومحدود في ذاته، ليس لديه غاية يجري إليها ولا هم يتفرّغ له. وأما الخليفة عند إقبال فحياله الأنانية العظمى، أي الله ذو الرحمة الواسعة، وصاحب العطاء المتصل، فله عنده الدرجات العلى، يجزي بها بما يسعى؛ ثم سوبرمان نيشته عارٍ عن العاطفة جافي الطبع، شديد الوطأة، لأن روح أفكار نيشته أرستقراطية، فرأى أن حقيقة الكائنات القصوى (إرادة القوة)؛ وقرر أنها هي الدافع الغريزي الأقوى في الإنسان فعليه أن يطلبها، ولكن هذا الطلب غير المشروط كان ينجم عنه نظام القِيَم الذي ظلت الحضارة مشتبكة فيه إلى الآن. فهنا أتى نيشته بفكرة (وراء الحسن والقبح) فإرادة القوة عنده لا تعرف حدود الحل والحرمة، والحسن والقبح، لأن كل شئ مصدره ونهايته قوة، عندها حلال وحسن، وكل شئ مصدر ونهايته ضعف، عندها حرام وقبح، والعقائد كذلك ليست عندها متساوية متماثلة، فالفرق الحقيقي بينها ليس عندها من حيث كونها حقاً وباطلاً، بل من حيث كونها مفيدة وغير مفيدة. وهكذا شعرت أرستقراطية نيشته بضرورة أي تغيير جميع القِيَم، فمثل في أن واحد دور الفيلسوف، والمصلح الأخلاقي، والشارع، وخالق الحضارة الجديدة. وكان في دور ارتقاء أفكاره الأخير شاعراً بمهمته هذه.

فعلى هذا النمط وصل نيشته إلى تصور كمال الإنسانية في صورة (سوبرمان) بازاء عامة الناس الذين هم موضع قنوطه ويأسه. فأنشأ فكرته الجديدة للحضارة بتوزيع الاجتماع الإنساني في طبقتين متناقضتين: ذات أخلاق السادة وذات أخلاق العبيد. وقرر أن الأولى منشأ سوبرمان، وأن لأفرادها وهم الأقوياء حق معاملة أفراد الأخرى وهم الضعفاء بالظلم والعدوان، وإن واجب القوى في شريعة الارتقاء وتنازع البقاء الولوغ في دماء الضعيف وفتح جميع أبواب الجور عليه بكل وحشية، فإن السوبرمان أو الإنسان القوي الكامل الصالح للحياة لا يظهر إلا بتدمير الضعيف غير الكامل وغير الصالح للحياة. وأما طبقة الضعفاء أو (ذوو أخلاق العبيد) كما يسميهم هو فقد خلقوا لأستمال الأقوياء فقط، وهم موضع بأس نيشته، لذلك سد عليهم نيشته جميع أبواب التقدم كما سدت ديانة البراهمة على المنبوذين في الهند.

فلذلك كان تصور الخليفة لدى إقبال خيراً من تصور السوبرمان عند نيتشه، لأن روح أفكار إقبال الديمقراطية الإسلامية فالخليفة عند إقبال شخصية محبوبة إلى جميع طبقات البشر تسعى لخيرهم، وتسبغ من خصب طبعها عليهم وتقربهم إلى نفسها؛ فكلما تتقربوا إليها تتدرج حياتهم في مدارج الكمال؛ وهي تمثل اللين كما تمثل الشدة. وهاتان الصفتان لا محيص عنهما لتقدم الاجتماع البشري. قال إقبال في بيتين ما ترجمتهما:

اخلق من حفنة ترابك ... جسما أوطد من حصن منيع

وليكن في داخله قلب رقيق ... كالنهر في جنب الجبل الراسي

إن ما حدا بنيتشه إلى هذه التصورات الأرستقراطية هو خوضه غمار الأدب اليوناني، وهو لم يشعر بأن النظام الاجتماعي اليوناني في هذا الأمر كان ناقصاً. فلو شعر بذلك لم يحسب العبودية كالجزء الضروري للتمدن. فظهور سوبرمانه في الحقيقة على حساب تلك العبودية، وهو يحوز قصب السبق على جهود هؤلاء العبيد، وعلى هذا فشخصيته عند فلسفة إقبال ليست بأكثر من شخصية مستجد

(للمقال بقية) السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي