الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 121/من الأشواق الملتهبة

مجلة الرسالة/العدد 121/من الأشواق الملتهبة

مجلة الرسالة - العدد 121
من الأشواق الملتهبة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 28 - 10 - 1935


شجرتي الضالة

(مهداة إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي)

للأستاذ خليل هنداوي

مقدمة:

(لي شجرة ضخمة الجذع وارفة الغصن؛ أحج إليها كل يوم لأتبوأ جذعها ألابتر مقعداً، حيث لا يطرقني إلا الطيور النازحة والنسائم الرائحة شان هذه الشجرة عجيب، قد غبرت عليها عصور، وهي ثابتة تبدل قشوراً بقشور، لا يمسها نصب ولا فتور. والسالك في ذلك الطريق الوعر ينجذب بظلها، فيأوي إليها مخففاً عن نفسه بعض ما ناء بها من مشقة الطريق؛ فيرى الظل والراحة والنعيم؛ فيتمنى لو أنام أيامه تحت ظلها؛ أو لو أن حياته القلقة تحتوي على مثل هذا الظل الذي تنحط عليه الشمس من كل مكان لتحرقه وما هو بمحترق؛ ولكن الإنسان ما أشقاه! ولوع بالسير ولكن إلى أين؟

هذه الشجرة آثرتها لي مثوى في أيام صيفي، لأنها تقصيني عن الناس وتدينني من نفسي؛ وما آثرته لجسدي منتقلاً كيف لا أوثره له يوم تغدو حقيقته ظلاً!. . .)

(خليل)

المسلك إليك وعر يا شجرتي!

وهأنذا قد سلكته

الطريق محفوف بالشوك

وهأنذا قد طرقته. . .

يقولون عنك (ضالة) لأنك آثرت هذه العزلة العميقة، وهذه الزاوية السحيقة

وينظرون إليك ساخرين لأنك تركتهم وملت إلى الانفراد.

كم يخشى الناس هؤلاء المعتزلين!

يرونهم فيقولون: ربنا لا تجعلنا من الضالين

اتضنين على من سلك الوعر إليك. . .

ضالاً عن قرنائه

بهذا الفيء الذي جاهدت جذورك وأوراقك وروحك في حياكته

ولو أردت الظل لنفسك لما تعبت في مده

والظل الخفيف يغنيك. . .

ولكنك لست كالإنسان الذي يقضي العمر كله في حياكة ظل لنفسه، ويمضي غير منتهٍ من

حياكة ذلك الظل

أما ظلك أنت فقد حُكتِه!

وهذا الظل الواسع الممدود على الأرض لم تحوكينه؟

أليس - للظالين - أيتها الشجرة الظالة؟

إلهي اجعلنا من الضالين!

أتضنين على من تحمل النصب من أجلك - وقد تكونين أنتِ في غنى عنه -

أتضنين عليه باستواء قصير على منكبك العالي

ليشركك في تأملك العميق

وإن ضلالك ليشرك ضلالي

وظلك الممدود ينادي خيالي

فلا تثاقلي من استوائي عليك، فإنني لن أشوش عليك تأملاتك

ولن تعطل طيورك أهازيجها من أجلي

افتحي قلبك لي فإني لاجيء إليك

وأومئي بأوراقك فإني ضال مثلك

أأنت تلك المحجة التي يسعى إليها الإنسان غير حافل بوعورة الطريقة؟

أأنت تلك المحجة التي تناهضها الصخور والوعور والأشواك لتواريها عن العيون؟

وكم يكلف الوصول إلى هذه المحجة؟

إرتفعي كثيراً وأسمي كثيراً، حتى تبدو للضالين ذروتك، وأصعدي باغصانكِ إلى السماء.

وليجذبها شوقك دائماً إلى السماء.

هل رأيت المحجة بعين الشوق، فأنبأت رفيقاتك فسخرن منك، لأنهن لا يرين إلا بعيونهن، فإعتزلتهن، وانطلقت وحدك وراء المحجة. . .

نورها يسطع للعيون براقاً، فما أدناه للعين وما أبعد تناوله!

أغمضي عينك فقد جمدت، وسالمي قدمك فقد ارتعشت

والمحجة لا تزال بعيدة كالنور الذي ترنو إليه العين وتقصر عنه اليد.

ألا أن المحجة في عالم أنفسنا قد سطعت، فمدى يدك إلى قلبك تلمسيها، وانظري بعينك

في نفسك تبصريها.

ألا إن المحجة في أنفسنا. . .

ستضرمنا العاصفة ثم تذرونا الرياح رماداً قبل أن ندرك هذه المحجة.

أليست هي في أنفسنا؟ ولكن الأبعاد الشاسعة بين نجوم الفضاء. . . هذه الأبعاد التي

ترتجف لها مقاييسنا حين نمدها بينها، هذه الأبعاد هي أقرب تناولاً من الأبعاد الشاسعة المنتصبة بيننا وبين أنفسنا.

أين أنت أيهذا الذي بلغ نفسه!

بلى! ستضر منا العاصفة، وسنحول رماداً قبل أن تنتهي مراحلنا إلى أنفسنا

كلانا ضال وراء نفسه

كلانا يرهب طريقه الناس، لأن طريقنا طريق الوحدة، وطريق الوحدة طريق الضلال

كلانا يمشي وإن لم يكن في نظر المقاييس شيئاً، لأن مشينا لا تدركه مقاييس

ضميني إليك يا شجرتي الضالة فقد أضواني السير ولفحت وجهي الشمس

ضميني إليك أقرن تأملاتي بتأملاتك، فنحن في نظر الحياة شريكان يتمم بعضنا بعضاً

تضيئنا شمس واحدة، وتنير طريقنا مصابيح واحدة، وتعانقنا غاية واحدة

مشهدك واحد في حياتك كلها لا يبرح ناظرك، ولك منه كل يوم وجه للتأمل جديد

ومشاهدي كثيرة واعتباري منها قليل

وواصلي أيها الطيور أغانيك فوق رأسي فما أنا بالمروع لك!

وغذيني أيتها الشجرة الضالة بفيئك الواسع

وغداً أغذي جذورك بلحمي ودمي

ألست ظمأى إلى دم إنسان! محجتنا واحدة وصداقتنا عميقة فوق ظهر الأرض وتحت بطنها

ستمتصني جذورك عصيراً، وستحملني سراً عميقاً إلى فروعك السامية.

إننا لن نقف!

لأن الشمس تبارك أشواقنا وتنير أرواحنا لأننا أحسنا الاستحالة

وبغير هذه الاستحالة كيف يريدون أن تحوك جذورك هذا الظل الوارف الذي يأوي إليه

الضالون!

وكيف يريدون أن تعيش هذه الزهور المتفتحة بدون رماد!

ألسنا في حالي الفناء والوجود قافلة من قوافل الحياة السائرة منذ الأبد حتى الأبد؟

ألست في صدرك حياً أيتها الشجرة؟

ألست أنت حية في صدر النار التي ستلتهمك؟

ونحن ألسنا بعد شيئاً ينبض في قلب الحياة دماً ولحماً، وماء ونباتاً، وناراً ورماداً؟

ربي أحلني في قلب هذه الشجرة ثمرة يباركها قلب جائع، ثم اجعلنا وقوداً لنار يهتدي بها

الضالون.

(كفريا)

خليل هنداوي