مجلة الرسالة/العدد 120/من تراثنا الأدبي
→ من نوادر المخطوطات | مجلة الرسالة - العدد 120 من تراثنا الأدبي [[مؤلف:|]] |
شوقية لم تنشر ← |
بتاريخ: 21 - 10 - 1935 |
2 - أبو العيناء
بقلم محمود محمود خليل
تحدثت في مقالي السابق عن إسراف أبي العيناء في هجاء الناس، حتى لم يسلم منه أحد من عظيم أو سوقة، وقلت إن هناك عوامل أثرت في حياته، حتى جعلته سليط اللسان وقد آن أن أتحدث عن تلك العوامل:
(1) الوراثة وقد تعرضت لها فيما سبق بحديث مستفيض، فلا حاجة بي الآن إلى تكرار القول فيها
(2) نشأته فقيراً، وطالما كان الفقر وهو مثير الأضغان والأحزان منبعاً للنبوغ والذكاء، ونجد فقره هذا اضطره فيما بعد إلى الارتحال من منبت نشأته وهو البصرة إلى بغداد طلباً لعطايا الخلفاء والوزراء، وكل أحاديثه مع الكبراء تنبئنا بفقره المدقع، فقد دخل مرة على عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير فضمه إليه، فقال له أنا إلى ضم الكفاية أحوج مني إلى ضم اليدين. وقال له مرة أنا معك مغبوط الظاهر موجود الباطن كما قال أبو الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... إني بما أنا باك منه محسود
وقال لعبيد الله بن يحيى: مسّنا وأهلنا الضر، وبضاعتنا الحمد والشكر، وأنت لا يخيب عنده حر
وسواء كان هذا الكلام منه من أساليب الاستجداء الذي اشتهر به أو من شدة الحاجة كما يقول، فقد عاش أبو العيناء في حياته كلها سواء منها المدة التي قضاها في البصرة أو المدة التي عاشها في بغداد في ضنك من العيش وشدة، وتلك حياة كثير من الأدباء والكتاب في عصره، حتى كان الانتساب إلى الأدب طالع سوء على محترفيه، اللهم إلا نفراً قليلاً من الأدباء الذين أتاح لهم القدر أن يصلوا إلى مرتبة الوزارة أو القضاء، وغفلت عنهم عين الزمان كما يقولون، كالفضل بن سهل وأخيه الحسن والفضل بن الربيع وابن الزيات ويحيى بن أكثم وأحمد ابن أبي دؤاد وغيرهم، وما عدا هؤلاء فكانت حياتهم تتوقف على العطايا التي ينفحهم بها أرباب المناصب في الدولة؛ وكثيراً ما كانت تضيق أمامهم س العيش، وتضطرهم الفاقة إلى الاستكانة والذلة، ولا سيما إذا راعينا رجلاً كأبي العيناء وهو مكفوف البصر، رثينا لحاله التي كان فيها، وانتحلنا له عذراً في استطالته بلسانه على الكبراء، فإنه لا يملك غيره، وهو سيفه الوحيد الذي كان يناضل به في حياته عن عيش الكفاف الذي كان يبتغيه في دنياه كما يقول ذلك لعبيد الله بن سليمان
(3) وثالث العوامل التي غيرت مجرى حياته فقد بصره، ولم يحدثنا الرواة أحصل له ذلك الحادث في حياته البصرية أم في حياته البغدادية، وإني أرجح أن ذلك كان في حياته البصرية قبل أن ينتقل إلى بغداد، فإن أحاديثه جميعها التي نقلت عنه وهو ببغداد تنبئنا أنه كان أعمى يقوده غلامه
ويظهر أن هذا الحادث قد أثر فيه تأثيراً كبيراً فجعله ساخطاً على الحياة، يتناول الناس بقوارص الكلم. قال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس، قال: إن لي في بصري لشغلاً عن الوقيعة فيهم، قال ذلك أشد لحيفك في أهل العافية. فانظر إلى حيفه في أهل العافية الذي يذكره له المتوكل، أما كان هذا أثراً من آثار فقد بصره؟ وشكا مرة إلى صديق له سوء الحال وفقد البصر، فقال له اشكر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية. قال: أجل ولكن بينهما جوعاً يقلق الكبد، ويفقد الرشد
لم يتخذ أبو العيناء سخطه على الحياة مذهباً فلسفياً له كما اتخذه شاعر المعرة من بعده، ولم يؤدّ به هذا السخط إلى الزهد والتقشف كما فعل ذلك أبو العلاء، وإنما كان سخطه مقصوراً على حزنه العميق الذي خالج فؤاده لفقد بصره
صفاته وأدوار حياته:
إذاً فقد اجتمعت عوامل ثلاثة أثرت في حياته: الوراثة والفقر وفقد البصر، حتى جعلته سليط السان حاضر البديهة متوقد الذكاء؛ ولقد تزود في حياته البصرية من آثار الوسط الذي كان يعيش فيه بما يصلح لمجالس الملوك والأمراء ومنادمتهم بأحاديث وطرف ونوادر، ثم رحل إلى بغداد بعد أن ضاقت به سبل العيش في البصرة؛ ولقد ذمها للمتوكل حينما سأله عنها فقال: من أين أنت؟ قال من البصرة. قال له: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم
تزود بتلك الرواية الواسعة واشتهر مع هذا بالجواب المسكت والمراسلات العجيبة والجواب السريع والطبع الفكه والحجة الداحضة، والبديهة المتوقدة. فكانت تلك المظاهر معينة له على الحياة التي أقدم عليها ببغداد. فمن ذلك أن بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو مت لرقص الناس طرباً وسروراً! فقال بديهةً:
أردتَ مذمتي فأجدت مدحي ... بحمد الله ذلك لا بحمدك
فلاثك واثقاً أبداً بعمد ... فقد يأتي القضاء بغير عمدك
ثم قال: أجل. الناس قد ذهبوا فلو رآني الموتى لطربوا لدخول مثلي عليهم، وحلول عقلي لديهم، ووصول فضلي إليهم، فما زال الموتى يغبطونكم ويرحمونني بكم. وخاصم أبو العيناء يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وأنت تقول كل يوم: اللهم صل على محمد وآل محمد! قال لكني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم. ووقف عليه يوماً رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا؟ قال رجل من بني آدم، فقال مرحباً بك! أطال الله بقائك، ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ولقيه بعض أصحابه في السحر فجعل يتعجب من بكوره، فقال له: أراك تشركني في الفعل وتفردني في التعجب! وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قال إن جماعة من الكتاب يلومونك. فقال: -
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها
وغير هذه الأحاديث كثير تستطيع أن تقرأها في كتب الأدب. وتلك البديهة الوقادة والأجوبة المسكتة هي التي جعلت الحصري صاحب زهر الآداب يقول: كان أبو العيناء أحدَّ الناس خاطراً وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جواباً، وأبلغهم خطاباً. ولقد كان أبو العيناء يجالس في حياته البغدادية الخلفاء والكبراء فيطرفهم بأحاديثه وفكاهته، فكان سلوة لهم في مجالسهم وزينة في محاضرهم على ما فيه من حدة اللسان
انتقل أبو العيناء إذاً من البصرة إلى بغداد بعد أن تمت له الثقافة التي أرادها، والبلاغة العكاظية التي امتاز بها، وتلك حال كان يشترك معه فيها كثير من أدباء عصره، إذ كانت بغداد مركز الخلافة الإسلامية يرحل إليها الأدباء والعلماء، ويبتغون فيها صلات الملوك والأمراء، وقد يصل بعضهم إلى أن يرتب له الخلفة من بيت المال رزقاً يجري عليه. ويظهر أن أبا العيناء كان من أولئك النفر كما تدل عليه أحاديثه ولا سيما إذا لاحظنا أنه من موالي الخلفاء العباسيين، فكان بلا ريب له دالة عليهم جعلته في مأمن من تلك الحزازات التي كانت في صدور كثير من الحاشية، والتي سبّبها أبو العيناء ببذاءة لسانه، وتطاوله على أعراض الناس
حياته البغدادية:
يقول الرواة إن أبا العيناء ولد في آخر المائة الثانية وتوفي سنة 282 أو سنة 283هـ فمن ثم يكون قد أظلته خلافة المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد وصدر من خلافة المعتضد بالله الذي تولى سنة 279 وتوفي سنة 289هـ. ولقد كانت الحياة البغدادية في عصر أبي العيناء كلها ترف ولذة، يسودها المجون والخلاعة، ويروج فيها العبث واللهو، وقد روى لنا المؤلفون كثيراً من مجالس لهوهم ومنادمتهم على الشراب، ومساجلات الشعراء في خلواتهم، وأحاديث المجان في طربهم، وإني أعتقد أن الخليفة الذي تمتع بملذات الحياة، وأنال نفسه ما تبتغيها حقاً، من خلفاء العباسيين هو المتوكل على الله، فهو أول من أظهر من خلفاء بني العباس الانهماك على شهوته، فأسرف في بناء القصور، وعكف على الشراب ولم يبال باللوم، ولقد جنى ثمرة رفاهية الدولة، وإن شئت فقل إن الدولة قد بلغت في أيامه ذروة العظمة، وكان لابد لها من بعده أن تضعف حتى تنمحي، ولكل شيء إذا ما تم نقصان. ولقد حدثنا التاريخ أنه قتل في قصره، وأن الأمور من بعده اضطربت اضطراباً شديداً بسبب المعول الهادم الذي أوجده المعتصم وهو الجنود الأتراك، ولم يظهر استبدادهم وشرهم حتى بلغت الأمور غايتها ثم ظهر الفساد بعد عصر المتوكل
اتصل أبو العيناء بالمتوكل اتصلاً شديداً، وسنعلم إلى أي حد أثر فيه هذا الاتصال، ولم يقتصر اتصاله بالخلفاء على المتوكل وإنما اتصل بغيره كما اتصل به، ولكن المتوكل هو الذي رفع له الحجاب، وجعل يصغي لأحاديثه، ولقد بهره منه تلك البديهة الحاضرة، وذاك الذكاء الوقاد، حتى رأيناه يمزح معه في كثير من مجالسه، ويرفع الكلفة بينه وبينه
ويظهر من أقوال الرواة أن أبا العيناء حينما ارتحل إلى بغداد كان الخلفة المأمون على رأس الدولة فاتصل به وعرف وزيره الحسن بن سهل وأخذ منهما الصلات والعطايا، ولقد أثر ذلك المعروف في نفسه حتى قال لما بلغه موت الحسن بن سهل: والله لئن أتعب المادحين، لقد أطال بكاء الباكين، والله لقد أصيب بموته الأنام، وخرست لفقده الأقلام. وخبر آخر قال أبو العيناء: حصلت لي ضيقة شديدة فدخلت يوماً على يحيى بن أكثم فقال إن أمير المؤمنين جلس للمظالم وأخذ القصاص فهل لك في الحضور؟ قلت نعم ومضيت معه، فلما دخلنا أجلسه وأجلسني ثم قال يا أبا العيناء بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ فأنشدته:
لقد رجوتك دون الناس كلهم ... وللرجاء حقوق كلها تجب
إن لم أكن لي أسباب أعيش بها ... ففي العلا لك أخلاق هي السبب
فقال لغلامه: انظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين، فقال بقية من مال، قال فادفع له منها مائة ألف وابعث له بمثلها في كل شهر. فلما كان بعد أحد عشر شهراً مات المأمون فبكى عليه أبو العيناء حتى تقرحت أجفانه، فقال له بعض أولاده يا أبتاه بعد ذهاب العين ماذا ينفع البكاء. فقال:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
(يتبع)
محمود محمود خليل $ 2