الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 120/فريزر ودراسة الخرافة

مجلة الرسالة/العدد 120/فريزر ودراسة الخرافة

مجلة الرسالة - العدد 120
فريزر ودراسة الخرافة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 10 - 1935


للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

تتمة

تخير فريزر أربعة من النظم الاجتماعية ليبين ما للخرافة من أثر في نشأتها وتكوينها. وهي: الحكومة، والملكية الفردية، والزواج، واحترام الحياة الإنسانية. فأثبت في وضوح أن الخرافة ساعدت على تأييد الحكومة وبسط نفوذها، وكانت عاملاً قوياً من عوامل الأمن والنظام. وثبتت كذلك دعائم الملكية الشخصية وصيرتها مقدسة بحيث أصبحت في مأمن من السلب والعدوان، واستطاع أصحابها أن ينتفعوا بها تمام الانتفاع. وحاربت الزنا والزناة فدفعت الناس إلى الزواج وحببتهم في الحياة الأسرية. ثم صورت الخرافة أخيراً الموتى والقتلى في صورة أشباح عظيمة الهول وأرواح تنتقم ممن اعتدى عليها، فكان في هذا ما صرف الناس عن سفك الدماء ودفعهم إلى احترام الحياة الإنسانية؛ وهذه النظم الأربعة هي عماد البناء الاجتماعي بأسره، إذا اضطرب واحد منها اضطربت له الجمعية كلها. فكأن الخرافة لم تؤثر في بعض النظم الاجتماعية فحسب، بل أثرت في عناصر الحضارة والتقدم على اختلافها. هي شر جاء من طريقه خير كثير، وخطأ في ذاتها إلا أنها هدت الناس إلى صواب عظيم. وليس يعني الجمعية أن تكون مدفوعة إلى الخير ببواعث خيرة بقدر ما يعنيها أن تصل إلى هذا الخير من أي طريق كان وكيفما كانت الدوافع. والأفراد أنفسهم لا يخرجون عن هذا القانون ولا يتعدون هذا النظام، إذ ما دامت أعمالنا طيبة، فليس يعني الغير كثيراً أن تكون نوايانا صالحة. ولئن ملأت الخرافة أدمغة الناس بخزعبلات لا حصر لها وقادتهم إلى أخطر الويلات، لمن الظلم أن ننسى أياديها في الترفيه عن الإنسانية والدفاع عن المجتمع. وكفاها إحساناً أنها هيأت للعجزة، والضعفاء، والجهلة، وناقصي العقول وسيلة من وسائل العمل الصالح وسلكت بهم سبل الخير. فهي كالعود قد ينقذ غريقاً، أو كالفنار الضئيل الذي، وإن لم يتجاوز ضوءه ظله، يهدي كثيراً من المارة وعابري السب تابعنا فريزر في المقالات السابقة، وسرنا وراءه خطوة خطوة رجاء أن نعرض صورة كاملة من آرائه وأبحاثه. وعلّ القارئ قد تبين في هذه الصورة غزارة مادة العالم الإنجليزي وسعة إطلاعه وتمكنه من موضوعه. فهو لا يكتفي بأن يدرس ظاهرة من الظاهر الاجتماعية لدى قبيلة أو شعب أو طائفة، وإنما يستقري الشعوب ويتتبع الجمعيات على اختلافها: فمن زنوج إفريقية إلى هنود أمريكا، ومن متوحشي استراليا إلى سكان الهند والصين، ومن القبائل الهمجية إلى الأمم المتحضرة، ومن العصور القديمة إلى التاريخ المتوسط والحديث. تشهد أمثلته، فوق غزارتها، وحسن اختيارها، بدقة الملاحظة والتعمق في البحث. هذا إلى خيال رائع، وأسلوب جذاب، وأحكام متواضعة لا زهو فيها ولا ادعاء، ولا مبالغة، ولا تهويل، قد أملتها دراسة هادئة، واستنبطتها عقلية متزنة. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نسرد الفقرة التالية التي ختم بها فريزر بحثه إذ يقول: (هاكم، سيداتي وسادتي، دفاعي عن الخرافة الذي قد يعرض تخفيفاً عن هذا المتهم الساقط حين يقف بين يدي القضاة، ومع هذا سيحكم عليه بالإعدام لا محالة؛ غير أن هذا الحكم لن ينفذ في جيلنا الحاضر، وسيبقى موقوف التنفيذ إلى أجل بعيد. وما أنا إلا محام - لا خصم - يتقدم إليكم الليلة. وقد كانت محكمة أثينا العليا لا تقضي في الجنايات إلا ليلاً، لهذا تخيرت الليل للدفاع عن سلطان الظلام. والآن، ونحن في ساعة متأخرة، يجدر بي أن أختفي مع موكلي الأشأم قبل أن يصيح الديك، ويبدو ضوء الفجر الرمادي في الأفق)

وفي دراسة فريزر للخرافة ناحية أخرى جديرة بالتقدير، ذلك أنه أخذ على عاتقه نصرة قضية يتبادر إلى الذهن بطلانها. يكاد يجمع الناس على أن الخرافة مبعث شر ومثار فتنة؛ ويأبى فريزر إلا أن يخرج على هذا الإجماع معلناً أن في باطن هذا الشر خيراً عظيماً وأن الخرافة أساس النظم الاجتماعية الهامة. وقد نجح نجاحاً كبيراً في إثبات دعواه والبرهنة على ما كان يرمي إليه. بيد أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ما يسميه فريزر خرافة هو في رأى معتنقيه دين وعقيدة. فالهمجي يخضع للملوك والحكام خضوع الموقن بسلطانهم الخارق للعادة وهيبتهم الصادرة عن السماء، ويؤمن بأن مال سيده ورئيسه مقدس فلا يمسه بسوء، ويعتقد أن الزنا مجلبة للصواعق والجدب والقحط فلا يقربه، ويخشى الأرواح والأشباح خشية الواثق من وجودها فلا يقتل نفساً ولا يسفك دماً. ولو خالجه الشك يوماً في هذه المعتقدات ما انقاد لها، ولو جال بخاطره أنها تمت إلى الخرافة بصلة لنبذها نبذ النواة. نعم إن من الديانات ما هو حق ومنها ما هو باطل؛ ولكن الفكرة، صواباً كانت أم خطأ، متى اكتست بكساء الدين أضحت قوة هائلة وأثرت في المجتمع تأثيراً نافعاً. ولو لم يكن للأديان إلا هذا النفوذ في قيادة الشعوب والتأثير في الجماهير لكفى في نصرتها والاستمساك بها

ونستطيع أن نأخذ على فريزر - فوق هذا - عنايته بالأمثلة وتعلقه بالحوادث الجزئية أكثر من بحثه عن القواعد الشاملة والقوانين العامة. وهذا نقد يصدق على مدرسة الاجتماع الإنجليزية الحديثة بأسرها التي قامت أعمالها أولا وبالذات على الرحلة والمشاهدة دون أن تعير النظريات والضوابط اهتماماً كبيراً، وقد جارها فريزر في هذا التيار. انظر أي كتاب من كتب سبنسر أو وسترمرك أو تيلور الاجتماعية مثلاً تجد أنك تنتقل من مشاهدة إلى مشاهدة ومن مثال إلى آخر، وقل أن تظفر بقضية عامة أو أصل ثابت. نحن لا ننكر أن هذه الطريقة أفادت علم الاجتماع مادة غزيرة وثروة طائلة، إلا أن هذه المادة لم تهيأ بعد للتغذية، وهذه الثروة لما تستثمر. هي مادة أولية (خام)، إن صح هذا التعبير، في حاجة إلى من يستخلص منها روحها وما حوت من أسرار. وقد فطن علماء الاجتماع الفرنسيون - وهم أبعد الناس عن السفر وأرغبهم عن الرحلة - إلى هذا النقص فكملوه، واستغلوا التجارب والمشاهدات الإنجليزية استغلالاً حسناً، وصاغوا المعلومات الاجتماعية في القوالب العلمية الحق. فإذا كان علم الاجتماع مديناً لرحالة الإنجليز والأمريكان بما فيه من مشاهدات جزئية وحوادث واقعية، فإن الفضل في كثير من نظرياته وقوانينه يرجع إلى المدارس الفرنسية

ومهما يكن فهناك نقطتان هامتان نخرج بهما من أبحاثنا السابقة في الخرافة، أولاهما خاصة بمصر والشرق في جملته، وتتلخص في أنه يسود هذه الديار قدر وفير من الخرافات أشرنا إليها سلفاً. فالخرافة متوغلة في كثير من معتقداتنا وعباداتنا، في عاداتنا وتقاليدنا، في آرائنا وأفكارنا. وليس معنى هذا أن أوربا خالية من أية خرافة؛ كلا فللغرب خرافات كما للشرق، والجمعيات على اختلافها لا تستطيع أن تتخلى عن مجموعة من الخرافات ترى فيها غذاء لميولها وأحلامها. ولكن مما لا شك فيه أن الخرافة وجدت بين ظهرانينا مرتعاً خصيباً فنمت وترعرعت. وما أجدرنا بأن ندرس خرافاتنا لنعرف أصلها ونشأتها وصلتها بالخرافات العالمية الأخرى؛ وبذا نستطيع معالجتها أو مطاردتها والتخلص منها. فخرافة (الزار) مثلاً ظاهرة اجتماعية تتطلب دراسة تاريخية مقارنة فيها كثير من بواعث السرور ووسائل التشويق. وما تخيرنا الخرافة بين الأبحاث الاجتماعية الكثيرة إلا لنلفت الأنظار إلى هذه الأرض الخصبة التي لم تستكشف وهذا العمل لم يبدأ فيه بعد

وقد لاحظنا من قبل إجماع بعض القبائل على اعتناق خرافة ما؛ وفي هذا ما يؤذن أن للإنسانية، وإن تنوعت بتنوع البيئة والوسط، تراثاً عاماً يأخذه الخلف عن السلف؛ وأن الإنسان المتحضر ليس إلا صورة مهذبة للإنسان المتوحش. نحن في كثير من آرائنا وعادنا وتقاليدنا عالة على من كان قبلنا، بل تكاد تكون شخصيتنا ونظام تفكيرنا من صنع القرون الغابرة. فلندرس إذن النظم الاجتماعية على ضوء التاريخ إن كنا نريد فهمها على وجهها الصحيح، لا سيما ونحن مخدوعون غالباً بما ألفناه. فكثيراً ما يلبس الشيء في أعيننا لباس العقل والمنطق في حين أنه يعتمد على أساس خرافي وأصل ضعيف. وكم من عمل عادي فردي أو جمعي نقوم به اليوم دون أن نعيره أية أهمية في حين أنه كان بالأمس ذا صلة بعقيدة خاصة أو عبادة محترمة. وقد تنبه علماء الاجتماع المحدثون إلى هذا فشرحوا لنا أموراً ما كنا نفكر في سردها وتعليلها. وعلى الجملة فالإنسانية أشبه ما تكون بشجرة ممتدة الأغصان مترامية الأطراف قد مرت عليها عصور طويلة وأجيال كثيرة، ولا يمكن فهم طبيعتها وفصيلتها والمؤثرات في ثمرتها إلا إن بدأنا بجذورها الأولى وعرفنا كيف نمت وتكونت

إبراهيم بيومي مدكور

دكتور في الآداب والفلسفة