مجلة الرسالة/العدد 120/الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
→ النقد والمثال | مجلة الرسالة - العدد 120 الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية [[مؤلف:|]] |
من نوادر المخطوطات ← |
بتاريخ: 21 - 10 - 1935 |
بقلم أحمد حسن الزيات
شعر الشيعة
ورث علي بن أبي طالب بحكم مولده ومرباه مناقب النبوة، ومواهب الرسالة، وبلاغة الوحي، وصراحة المؤمن، وبسالة المجاهد، فأجمع الناس على إجلاله وكادوا يطبقون على حبه؛ حتى من كتب عنه من الأوربيين قد شاركوا المسلمين في هذه العاطفة، فقد قال فيه الكاتب الإنكليزي كارليل: (أما ذلك الفتى عليّ فلا يسعك إلا أن تحبه؛ ركب الله في طبعه النبل منذ الحداثة، وتجلى في خلاله الكرم طوال عمره، ثم طبعه على العمل ونفاذ الهمة وصراحة البأس، وآتاه سر الفروسية وجرأة الليث، وكل ذلك في رقة قلب وصدق إيمان وكرم فعال تليق بالفروسية المسيحية) ثم سار عليّ في خصومته وخلافته وسياسته على ضوء هذه الأخلاق، فما قارف الأثرة، ولا حاول الفرقة، ولا راقب الفرصة، ولا أثار العصبية، ولا استخدم المال؛ وإنما أخلص النية للعمرين، ومحض النصيحة لعثمان، وأعذر بالحجة لمعاوية؛ ولكن دنيا الفتوح كانت قد أخذت على عهده تتجاهل دين البساطة والزهد، ولم تعد السياسة الدينية وحدها قادرة على كبح النفوس المفتونة بمال معاوية في الشام، وثراء الرافدين في العراق، فانتشر أمره، وانصدعت خلافته، ثم قتل مظلوماً في محرابه؛ فكان محياه ومماته تاريخاً دامياً للفضيلة المعذبة والنفس المطمئنة الشهيدة. ثم ورّث بنيه وأهليه ذلك العزم الثائر وهذا الجد العاثر، فدب الموت للحسن سراً في كأس مذعوفة، وقتل الحسين قتلة لا يزال يرعد من هولها الدهر
وتلاحقت الفواجع الأموية فصرع زيد وقتل يحيى، وافتنَّت المنايا الرواصد في اختلاج بني عليّ، وهم يقابلون هول الغوائل الظاهرة والباطنة بالشجاعة والصبر والاحتساب، وحتى أسفرت حول وجوههم طفاوة من التنزيه والتقديس، وتخللت محبتهم قلوب المسلمين، ولا سيما الشيعة. فإن ندم هؤلاء على خذلانهم إياهم، وألمهم لما رأوا من اضطهادهم وأذاهم، رفعا في نفوسهم ذلك الحب حتى أشرفا به على مقام العبادة؛ ثم ظهر ذلك الحب في صور من العقائد: فقالوا بالوصية، وجعلوا الإمامة من أصول الدين، وحصروها في عليّ وبنيه، وطعنوا في إمامة الشيخين. ولم يتهيأ لهم السلطان، ولم تسعفهم القدرة، فاعتمدوا على استمالة القلوب وترقيقها بالبكاء والندب، وتصوير الآلام، وإعلان الفضائل، فاصطبغ شعرهم بالحزن العميق، والرثاء النائح، والمدح المبتهل، والعصبية الحاقدة. على أن هذه الخصائص لم تكن واضحة في شعر أوائل الشيعة وضوحها في شعر الأواخر منهم، فإن تغلغل الفكرة في أصل العقيدة، وتنكيل الحاكمين بآل البيت، واضطهاد الولاة للشيعة، إنما تدرجت قسوةً وقوة مع الزمن، فضلاً عن قلة شعراء الشيعة في هذا العصر لإفساد الأمويين الضمائر بالحديد والذهب؛ فشعرهم بدأ ولاءً صادقاً، ومدحاً خالصاً، وهجاء مراً، ثم اشتد فصار مفاضلة جريئة، ومعارضة شديدة، ومناقشة فقهية، ودعاية حزبية. ولعل ذلك يتجلى لك فيما ذكرناه وفيما سنذكره من الأمثلة. فمن التعبير عن العاطفة القوية الساذجة قول أبي الأسود الدؤلي:
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر لا تنسى عليّا!
ينو عم النبي وأقربوه ... أحبُّ الناس كلهم إليّا
أُحِبهمُ كحبّ الله حتى ... أجيء إذا بُعثت على هَويا
فإن يك حبهم رشداً أُصِبْهُ ... ولست بمخطئ إن كان غيّا
ومن المدح والمفاضلة قول أيمن بن خزيم الأسدي:
نهاركمُ مكابدة وصوم ... وليلكُم صلاةٌ واقتراء
أأجمعكم وأقواماً سواءً ... بينكُم وبينهم الهواء؟
وهم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأرْؤسِهمْ وأعينهمْ سماء
ومن الهجاء قول ابن مفرغ الحميري:
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... مغلغلةً من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ... وترضى أن يقال أبوك زاني؟
فأشهد إن رحمك من زيادٍ ... كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سُمَيّة غير داني
وقول عبد الله بن هشام السلولي في يزيد بن معاوية:
حُشينا الغيظ حتى لو شربنا ... دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم ... تصيدون الأرانب غافلينا ومن المناقشة الجدلية قول الكميت في الخلافة:
يقولون لم يورث ولولا تراثه ... لقد شَركت فيه بجيلٌ وأرحبُ
ولا انتشلت عضوين منها يُحابرٌ ... وكان لعبد القيس عضو مؤَرّب
فإن هي لم تصلح لحي سواهمُ ... إذن فذوو القربى أحق وأقرب
فيالك أمراً قد تشتَّت جمعُه ... وداراً ترى أسبابها تتقضب
تبدلت الأشرار بعد خيارها ... وجُدَّ بها من أمة وهي تلعب!
ويكاد الكميت بن زيد الأسدي بقصائده الهاشميات يكون الشاعر الفذ لبني هاشم؛ فقد مدحهم واحتج لهم ودافع عنهم بلسان صادق واعتقاد خالص ونفس جريئة وقريحة سمحة. ولما أهدر هشام بن عبد الملك دمه لجأ على ما أُرجح إلى التَّقَّية في شعره على عادة الشيعة، فقال من كلمة يمدحه فيها:
فالآن صرتُ إلى أميّة والأمور إلى المصائر
يا ابن العقائل للعقا ... ئل والجحاجحة الأخاير
من عبد شمس والأكا ... بر من أمية فالأكابر
لكم الخلافةُ والألا - ف برغم ذي حسد وواغر
ومهما يقل الكميت فإن عاطفة شعراء الشيعة ستظل كما قلنا مكظومة بالطمع والخوف حتى تنبجس في عهد بني العباس نفثات غيظ، وحسرات حزن، وعبرات ألم، في شعر السيد الحميري، ودعبل الخزاعي، وديك الجن، ومطيع بن إياس، وأبي الشيص، والعكوّك، وأضرابهم
شعر الخوارج
وأما الخوارج - وجمهرتهم من البدو الجفاة والسذج - فقد قام أمرهم على الصلابة في الرأي، والمكابرة في القول والاشتطاط في الحكم، والتشدد في الدين، والغلو في العبادة، والقسوة في المعاملة، والاعتماد على الحرب. شايعوا عليّا وآزروه حتى قبل التحكيم، فقالوا له: حكّمتَ الرجال ولا حكم إلا لله! ثم خرجوا عليه وأبوا أن يرجعوا إليه إلا إذا أقر على نفسه بالكفر، ونقض ما عاهد معاوية عليه، فأبى عليهم ما سألوا، وأوقع بهم يوم النهروان، فزاد ذلك في حنقهم عليه وخلافهم له فائتمروا به واغتالوه. واستعرضوا أعمال الخلفاء وعقائد الناس، فخطئوا بعضاً وكفَّروا بعضاً؛ ثم ذهبوا إلى أن الخلافة تصح في غير قريش وفي غير العرب، وأن العمل جزء من الإيمان، فحرصوا كل الحرص على أداء الشعائر واجتناب الكبائر، ولاذوا بكور الجبال يدعون جهراً إلى مذهبهم دون مواربة ولا تقية ولا هوادة؛ فكانوا في الدين كما قال صاحبهم أبو حمزة الشاري: (أنضاء عبادة، وأطلاح سهر؛ قد أكلت الأرض أطرافهم، واستقلوا ذلك في جنب الله؛ فإذا كان الجهاد ورعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشاب منهم قُدُماً حتى اختلفت رجلاه في عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فإذا أنفذه الرمح جعل يسعى إلى قاتله ويقول: (وعجلت إليك ربِّ لترضى)
وكانوا مع هذا الورع الشديد والخشية البالغة يقسون على مخاليفهم، فلا يرحمون ضعف المرأة، ولا براءة الطفل، ولا شيخوخة الهرم، ولا وشائج الرحم، لأنهم - كما ظنوا - باعوا أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، فقطعوا أسباب الحياة، وأماتوا عواطف الدنيا، وقاتلوا وقُتلوا في سبيل هذا المذهب وتلك الغاية. وهم لصراحة بداوتهم، وشدة عصبيتهم، وخلوص عقيدتهم، وما تقتضيه دعوتهم من إدمان الحجاج والناظرة، أسلس الناس منطقاً، وأروعهم كلاماً، وأمتنهم شعراً؛ ولكن الشعر كان عندهم في المحل الثاني من الخطابة، لقيام أمرهم على الإقناع والجدل بآيات الله وأحاديث الرسول، وغناء الشعر في ذلك قليل. فإذا ما صمد الخارجي إلى الخصم، أو هجم على الموت، أو وقع في الأسر، جاشت نفسه بمتين الرجز، أو رصين القصيد، يضمنه وصفه للحرب، وولهه للقتال، وزهده في الحياة، واستخفافه بالموت، وشوقه إلى الشهادة، وظمأه إلى الجنة، في لفظ جزل وأسلوب قوي؛ وقلما يدور شعرهم على غير ذلك. فمن الرجز قول أم حكيم:
أحمل رأساً قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله
ألاَ فتى يحمل عني ثقله!
ومن القصيد قول معاذ بن جوين يحرض قومه وهو أسير:
ألا أيها الشارون قد حان لامرئ ... شرى نفسه لله أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ منكم يصاد ليُقتلا
فشدوا على القوم العداة فإنها ... أقامتكُم للذبح رأياً مضللا ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي ... إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا
فيا ليتني فيكم على ظهر سابح ... شديد القُصيري دارعا غير أعزلا
فيا رُب جمع قد فللت، وغارة ... شهدت، وقِرْن قد تركت مجندلا
وقول الطرماح بن حكيم:
لقد شقيتُ شقاءً لا انقطاع له ... إن لم أفز فوزة تنجي من النار
والنار لم يَنجُ من لهيبها أحد ... إلا المنيبُ بقلب المخلص الشاري
أو الذي سبقت من قبل مولده ... له السعادة من خلاقها الباري
وقوله:
وأمسى شهيداً ثاوياً في عصابة ... يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس من شيبان ألف بينهم ... تُقى الله نزالون عند الزواحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
وكقول قَطَرِي بن الفجاءة في يوم دولاب:
فلم أر يوماً أكثر مَقْعصاً ... يمج دماً من فائض وكليم
وضاربة خداً كريماً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطناً ... له أرض دولاب حميم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
وقليلاً ما يجادل الخوارج بالشعر ويقارعون بالهجاء، لاعتمادهم في الجدل على الخطابة، وفي القراع على السيف. ومن هذا القليل قول بعضهم في الجدل وقد هزم أربعون منهم ألفين لابن زياد:
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ويقتلكم بآِسكَ أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هي الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
وقول عمران بن حطان في هجاء الإمام:
لله در المرادي الذي سفكت ... كفاه مهجة شر الخلق إنسانا أمسى عشية غشاه بضربته ... مما جناه من الآثام عُريانا
وما حمله على ذلك إلا أنه من القَعَدة لضعفه عن الحرب لكبر سنه فجاهد بلسانه
الزيات