مجلة الرسالة/العدد 12/ذكرى المولد
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 12 ذكرى المولد [[مؤلف:|]] |
لغو الصيف ← |
بتاريخ: 01 - 07 - 1933 |
في مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر لسنة ثلاث وخمسين قبل الهجرة أعلن الله كلمته من جديد، في استهلال هذا العربي الوليد!!
وكانت قافلة الحياة يومئذ جائرة السبيل حائرة الدليل خائرة العزيمة. والعالم الإنساني يكابد في هيكله المنحل عوامل البلى من وثبة توبق الروح، وجاهلية توثق العقل، ومادية ترهق الجسد. وكانت الولاية عليه في ذلك الحين لأعقاب من الروم شفهم الفسوق والترف، وإخلاف من الفرس هدهم الغلول والطمع، والناس عدا هؤلاء وأولئك أوزاع وهمج. . اللهم إلا شعبا نبيل الفطرة اعتصم بالصحراء من هذا الفساد الشامل، فما عبث بضميره سلطان، ولا عدا على خلقه طاغية. . . نشّأته الطبيعة على سجاياها المرسلة، وراضته على نظمها المحتومة، وصفّاه (الانتخاب الطبيعي) بالغزو المتلاحق والدفاع المتصل، فأودى بضعيفه، وأبقى على قويه، حتى لم يدم على أديم الجزيرة إلا سيف صارم، وفرس جواد، ودارع بطل! ثم تنخل من هذه الصفوة الباقية في القرن السادس أمّة وسطا تحمل في قوة الحيوية، وكمال الرجولة، وصفاء الحس، المثل الأعلى للإنسان الأعلى (سوبرمان).
تلك هي الأمة العربية التي اختارها الله لقيادة شعوبه الحائرة، واختار منها محمدا لتبليغ رسالته الأخيرة. . .
بين إيوان كسرى وبلاط قيصر اهتز مهد العربي اليتيم في أرض مكة! فتصدّع لهزّته الإيوان، وتطامن لهيبته القصر!! وكأنما هتف بالعاهلين العظيمين من جانب الغيب هاتف: (اليوم ينتهي تاريخ ويبتدئ تاريخ! ليس بعد اليوم ملك ولا كاهن ولا سيد! إنّما العبادة لله، والقيادة للرسول، والسيادة للدين، والحكومة للعرب، والدنيا للجميع!!)
وبين عرش قيصر وعرش كسرى انتصب منبر النبي الكريم في سماء (المدينة) فتضاءل لجلاله عرش، وتقوّض لدعائه عرش! ثم انبثق نوره القدسي في مجاهل البدو ومعالم الحضر، كما يبتسم الأمل في قطوب اليأس، وتومض المنارة في ظلام المحيط! هنالك ظهرت الوحدانية على الوثنية، والغيرية على الأنانية، والإنسانية على العصبية، والإسلام على الجاهلية، ثم عرف الإنسان قدر الإنسان، وأدركت النفوس جمال الإحسان، ووجدت قافلة الحياة طريقها القاصد!
كان العالم يقاسي حين ولد محمد بن عبد الله تفكك الخلق، وتحلل الرجولة، وضياع المث الأعلى، فكان أكمل ما في حياة (الأمين) هذه الصفات النوادر: خلق عظيم شهد به الله، ورجولة كاملة خضع لها الناس، ودين يجمع إلى سعادة الدنيا سعادة الآخرة، ورسالات الرسل إنما تعالج بظهورها الفساد الذي استشرى في العالم، والداء الذي استفحل في الناس.
فإذا كانت معجزة الرسول في القرآن، فان مجده في الخلق، وفوزه بالرجولة. والشعوب المختلفة التي صهرتها شخصية العرب، وطبعتها ثقافة العرب، لم تصل إلى الإخاء والوحدة إلا على منهاجه وهديه.!
ظهر رسول الله والعرب أشتات من غير جامع، وهمل من غير رابط، وأحياء من غير غرض، فاضت في نفوسهم الحياة، وزخرت في صدورهم القوّة، وصرفوا هذا النشاط العجيب إلى نزاع لا ينقطع، وصراع لا يفتر. فحمل إليهم وحده رسالة الله لا يسنده سلطان، ولا يؤيده جيش، ولا يمهّد له مال، فنفروا منها نفور الوحش المروّع! ثم رأوا فيها سيادةً لأسرة، وخضوعا لقانون، وخروجا على عرف، فقابلوها بالعناد وعارضوها بالحجاج ودافعوها بالكيد. آذوا الرسول في أهله وفي صحبه وفي نفسه، فما وهن عزمه ولا لانت قناته. وإنما قابل الأذى بالصبر، والسفه بالحلم، والفضاضة بالرقة، وهذا هو الخلق؛ ثم قارع الجدال بالتحدي، والمكابرة بالسيف، وهذه هي الرجولة: وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر محمد وحده على العرب! وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر العرب بعده على العالم!
فلينظر اليوم شعب محمد وأتباع محمد ماذا في نفوسهم من دينه. وفي أخلاقهم من خلقه، وفي أيديهم من تراثه؟؟ فإن وجدوا أن دينهم أصبح رسما محيلا في نفوس الخاصة، وأثرا مشوها ضئيلا في نفوس العامة، وأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية، وأضاعوها يوم أضاعوا الملك، وأنّ تراثهم أصبح نهبا مقسّما بين شذاذ الشعوب وذؤبان الأمم، فليفيقوا من النوم، وليخففوا عن القدر اللوم، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرّة! ومن عاند طبيعة الحياة فقتل في نفسه الطموح، وفي فكره التجدد، وفي عمله الابتكار، ورضى أن يكون في الدنيا كالأثر في المتحف، إنما يدل على ملك باد وشعب انقرض، كان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين، ووطنه للمستعمرين، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسّر على المجد المفقود، ويتعلل بالأماني الكواذب!! إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكّام، وسلطان القوة. وتحكّم الجهالة. فما أجدر النفوس الذاكرة الحرة على اختلاف منازعها أن تخشع إجلالا لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!! وما أخلق الزعماء الذين يحاولون اليوم توحيد العرب من جديد، أن يتخذوا منهاجه سبيلا إلى هذا العمل المجيد!!
أحمد حسن الزيّات.