الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 12/بين بريسكا وتوفيق الحكيم

مجلة الرسالة/العدد 12/بين بريسكا وتوفيق الحكيم

بتاريخ: 01 - 07 - 1933


بريسكا: أني أبغضك. أبغضك من أعماق قلبي.

ت. الحكيم: استغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟

ب: واحتقرك كما احتقر غالياس.

ت: لاحظي يا سيدتي قبل كل شئ أن ليست لي لحية غالياس!

ب: قل لي أنت قبل كل شئ: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟. . لو أن قلمك تمهل لحظة صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن. . .! ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كانت كافية لإنقاذ الفتى. . لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!

ت: لست قاسيا يا سيدتي ولا ظلوما. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر.

ب: لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟!

ت: لا تحمّليني يا سيدتي هذه التبعة.

ب: جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!!

ت: ما أظلم الإنسان! وما أحوج المبدعين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود!

ب: نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع!

ت: إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهم براء من كل صفة من الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغى إله لصوت آدمي لأنحلّ الكون في طرفة عين كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة. ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلاّ يا سيدتي. إني لم أرد موت مشلينيا ولم أرد بقاءه. ولم أحب ولم أكره. ولم أظلم ولم أعدل. إنّ المبدع لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: (التناسق).

ب: هذا كلام تبرر به قسوتك.

ت: أنت يا سيدتي لا تعرفين ما مهنة المبدع! ثقي أن كلمة (قسوة) لا معنى له المهنة.

ب: أنت كائن لا يمكن أن يفهمني ولا يمكن أن يفهم الحب.

ت: لا أفهمك، هذا صحيح. أمّا أني لا أفهم الحب فهذا غير صحيح.

ب: هل أنت تفهم الحب؟

ت: قليلا.

ب: هل أحببت في حياتك. .؟

ت: أيتها الأميرة. لا أسمح بالكلام في شؤوني الخاصة.

ب: معذرة. إنما أردت أن أعرف كيف فهمك للحب؟

ت: ماذا تريدين أن تعرفي. أحب الخالق وهو روح التناسق. أم حب المخلوق. .؟

ب: حب المخلوق. . حب القلب. . الحب ما أريد. صدقت ما دمت أنت خالقا وأنا مخلوقتك فإن بيننا تلك الهوّة. . فأنت لا تنظر إليّ بعين خاصة. ولا تعرفني معرفة خاصة. ولا تتصل بي اتصالاً مباشرا. إنما تنظر إليّ كعنصر من عناصر الكل المتسق. تنظر إلي بعين ذلك القانون الذي تحكي عنه، وينبغي أن تكون مخلوقا مثلي وعنصراً أو جزءاً مثلي حتى يكون بيننا ذلك الارتباط الخاص وذلك الالتفات الخاص. فهبك كذلك وهبني أحببتك فهل تحبني؟

ت: يا لكِ من ذكية ماهرة!

ب: أجب. إذا أحببتك. . .؟

ت: ومشلينيا؟

ب: دعنا الآن من مشلينيا.

ت: إذا أحببتني؟. . أنا. .؟

ب: نعم.

ت: إني أخشى هذا الحب.

ب: لماذا؟

ت: لأنك لن تحبيني.

ب: من أين لك العلم؟ ت: هل رأيتني؟ إني لا أشبه مشلينيا في شيء. فليست لي فتوته ولا جماله ولا قوامه ولا ذراعاه ولا شفتاه. . .

ب: ولا قلبه؟

ت: أتردد قبل أن أجيب. قد يكون لي قلبه. لكن ثقي أني إذا شقيت في هذا الحب فإني لا أذهب إلى الكهف ولا أموت جوعا. أولاً ليس عندي كهف أموت فيه. وإن وجدنا الكهف فلسنا واجدين الشجاعة والصبر عن أكل الشواء والدجاج يوما واحداً. . .

ب: إذن ليس لك حتى قلبه!

ت: نعم وا أسفاه!

ب: إذن ما يصنع مثلك لو شقي في هذا الحب؟

ت: يذهب إلى كهف من كهوف النبيذ في مونمارتر. . ويؤلف قصصاً تمثيلية.

ب: مرحى!. مرحى. .!

ت: لا تغضبي أيتها العزيزة بريسكا.

ب: أهذا فهمك للحب؟

ت: ماذا تريدين إنّا لسنا قديسين!

ب: أنتم مبدعون!. . كنت أحسبكم خيراً من هذا!!

ت: كذلك قال غالياس يوما فيما أذكر عن القديسين الثلاثة إذ خالطهم وحادثهم. ألا تذكرين؟

ب: كنت أظنك على الأقل خيراً من غالياس المسكين فهماً للحب!!

ت: يشق عليّ أن يخيب ظنك فيّ يا عزيزتي!

ب: عزيزتك! كلا. لست أسمح لك. إنك تخاطبني كما لو كنت تعرفني من قبل. أو كما لو كنت لي بعلا!!

ت: حقيقة أيتها الأميرة. ليس لي هذا الشرف.

ب: تستطيع أن تنصرف يا هذا.

ت: أنصرف إلى أين أيتها الأميرة. .؟

ب: أتسألني؟ إلى حيث كنت. . إلى سمائك. .

ت: أين هي هذه السماء؟ في دمنهور؟ أو في قهوة (جراسمو)؟ ما أكثر أوهامكم أيتها المخلوقات!

ب: نعم ما أكثر أوهامنا. . وتخيلاتنا وخيبة آمالنا!. .

ت: ذلك أنكم تريدون أن تخضعوا كل شيء لخيالكم أنتم.

ب: صدقت. إنّا نتمثّل القديسين والآلهة كما تصورهم لنا عقولنا. .

ت: ثقي أن لو كشف المجهول يوماً لأعين البشر لصاحوا كلهم بكلمتك التي لفظت الساعة: (كنّا نحسبه خيراً من هذا. .!)

ب: ربما. .

ت: ذلك أنهم سيرون المجهول شيئا لا علاقة له بعقلهم، ولا بخيالهم، ولا بمنطقهم، ولا بعواطفهم، ولا ببشريتهم. .

ب: إنّا مخلوقات ماذا تريد من مخلوقات؟ إنا لا نستطيع أن نخرج من أنفسنا لنفهم ونرى شيئا غير أنفسنا.

ت: ومع ذلك فإن لهذه المخلوقات كنزاً لا يوجد عند الآلهة.

ب: القلب.

ت: نعم.

ب: إني أؤمن بما تقول. فها أنت ذا خالق من نوع تافه. . ليس لك القلب الذي لمشلينيا. .!

ت: أعترف أني أقل شأنا من حبيبك.

ب: ومع ذلك فقد اجترأت يدك على إطفاء حياته الجميلة. . .

ت: عدنا إلى الاتهام.

ب: إني أبغضك. . أمقتك. . أبغضك من أعماق قلبي. .

ت: سبحان الله! اقسم أن لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.