مجلة الرسالة/العدد 12/إلى بئر جندلي
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 12 إلى بئر جندلي [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 01 - 07 - 1933 |
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
- 2 -
وبعد دقائق انحدرنا إلى ميدان المنشية وأخذنا طريقنا إلى مقبرة الأمام الشافعي، وبعد أن اخترقناها أقبلنا على قرية البساتين فكانت في سكون لا يسمع من حولها إلاّ نباح الكلاب وصرير الصراصير، ثم مررنا بمقابر اليهود فاستقبلنا حارسها وأخبر الدليل بمرور الجمال.
كان الليل باردا والسكون شاملا وضوء القمر فاترا يملأ الأرجاء، وكنا نسير في صمت وأمامنا الدليل منحن قليلا إلى الأمام يجد في السير بقدم ثابتة ونحن نتبعه ونتابعه.
معنا السلاح والذخيرة، ومعنا الماء والزاد، ومعنا الدليل الخبير المجرب، ونحن جماعة أشداء، فمم الخوف؟ كانت تجول هذه الأفكار بخاطري وانظر إلى الرفاق وهم يسيرون على هيئة الجند فتتملكني روح زهو وفخار، واشعر بنشاط وقوة، فيرتفع رأسي ويتسع صدري وألاحق الدليل وأتقدم الجماعة، والنفس طافحة بشراً وغبطة. بعد ساعة مال الطريق نحو الشرق، ثم أخذنا نرتقي هضبة وأخذت تتلاحق التلال وتعلو، وقبيل نصف الليل غاب القمر وخيم الظلام وأصبح منظر الوادي رهيباً موحشا، وهنا قال الدليل: (وادي التيه يا سادة) في هذا الوقت كنا نتقدم في واد متسع تعلو الهضاب على جانبيه وهو ينثني بينها تارة يمينا وطورا شمالا.
وعند الساعة الثانية صباحا وصلنا حيث كانت تنتظرنا الجمال في ناحية من الوادي، وقد جلس بجانبها سويلم يدخن غليونه بينما انشغل على الجمال بإمداد بؤرة التدفئة بالعشب الجاف، كان قد طال بنا السير أجهدنا أصبحنا في حاجة إلى الراحة بل إلى النوم، فاستلقينا على الأرض قريبا من الجمال ثم غلبنا النعاس فنمنا.
كنا نائمين في العراء وليس علينا غطاء، فاستيقظنا عندما لاح الصباح بعد نوم قصير وأجسامنا ترتعد وأطرافنا ترتجف من شدة البرد، وكانت الطبيعة هادئة وبزوغ الشمس من وراء الجبال فتناً ساحرا، وكنت أطيل النظر فيما حولي واسأل نفسي: أنا في حلم أم ف يقظة؟ فقد زال عنائي وغدوت مرحا فرحا نشطا، وبعد أن تناولنا فطورا ساخنا بسيطا ذهبت الجماعة بصحبة الدليل إلى الصيد وبقيت أنا ومحمد بك لنسير مع الجمال، وقد تواعدنا أن نلتقي ظهرا على بئر دجلة.
كان الصباح لطيفا منعشا، والشمس مشرقة، وقد وجدت في محمد بك خير صاحب، فقد كان لطيف المعشر حلو الحديث على علم بالصيد وطرق الجبال والأودية، فاستأنست به، واطمأنت نفسي إليه فاخذ يقص عليّ في حماس ونحن نسير الهوينى خلف الجمال ما وقع له في رحلاته السابقة من مخاطر عجيبة، ونوادر لطيفة، وبعد أن سرنا هكذا نحو ساعة ضاق الوادي وانتهى بنا إلى هضبة عالية فارتقيناها على مهل، وكان صعودنا على جرف في طريق لولبي شديد الانحدار، لا يزيد عرضه على القدم ومن تحته هوّة عظيمة، وقد اجتازت الجمال هذا المنحدر الوعر من غير مشقة، فكانت متزنة الخطوات متئدة متنبهة تحاذر السقوط أو الزلل، وبعد ساعة أخرى أخذنا نهبط وادياً عظيما كثير التعاريج جدرانه قائمة، وتقوم على جانبيه الروابي العالية، والقمم الشامخة، وقبل الظهر بساعة وصلنا بطن الوادي بسلام، واتجه سويلم إلى ناحية فيه وأناخ الجمال، أشار بيده إلى كوّة مرتفعة في الجدار الجنوبي للوادي يظللها نتوء من الجبل كبير البروز، وتكتنفها أحجار ضخمة تجعلها كالوكر في مأمن من الرياح والأمطار، وقال هنا نمضي الليلة، فحملنا إليها الغطاء وبعض الحاجات وفرشنا أرضها بسجادة واعددنا في ناحية منها موقداً جمعنا بالقرب منه عشبا جافا من شيح وشوك وطرفاء، ثم هيأ محمد بك للجماعة طعاما دسما من لحم مسلوق وأرز وخضار، وبعد الظهر بساعة أقبل الصيادون يحملون أرنبين كبيرين وقد لفحت الشمس وجوههم وبدا عليه التعب، وبعد أكلة شهية تفرقنا في الوادي نتفرج على مناظره الطبيعية البديعة، وتقع بئر دجلة على عشر دقائق من معسكرنا جهة الشرق في حضن شلال فخم يعله خانق جميل، والبئر في مسقط السيل وعمقها نحو ثلاثة أمتار تمتلئ بالماء وقت الأمطار ويفيض ماؤها وقت الجفاف، والوادي كثير العشب وافر الكلأ، يسبح في فضائه أنواع من العصافير والحدأة، وترعى فيه الإبل والماعز، وبعد الغروب عدنا إلى المعسكر وقد خيم الظلام واشتد البرد وشمل الوادي سكون موحش، وبعد العشاء آوينا إلى الفراش ونمنا ملء الجفون حتى قبل الفجر، وكان منظر الوادي في السحر فاتناً يستهوي الأفئدة ويملأ النفس دهشة وروعة، وفي الصباح الباكر توجهنا للصيد وبقى عبد الله بك وسليمان بك بالسير مع الجمال، واتفقنا أن نلتقي عصرا على بئر جندلي.
خرجنا من وادي دجلة مع بزوغ الشمس وأخذنا طريقنا فوق الهضاب وفي الأودية متوغلين شرقا لا نتبع طريقا معينة، وكان في القيادة حسن بك وهو صياد ماهر خفيف الجسم رشيق الحركة بصير بالصيد وضروبه. وبعد قليل أقبلنا على واد وافر العشب فا بصرنا أرنبا يقطع عرض الوادي بسرعة البرق يتلوه ثان وثالث، وفي لمح البصر اختفت وراء الصخور وكان لمنظرها وهي تعدو أثر مدهش في الجماعة، فاندفعوا وراءه لا يلوون على شيء، وفي المقدمة حسن بك ينهب الأرض نهبا كأنه الجواد في حلبة السباق. وفي لحظات توسطنا الوادي وبدأت المطاردة، وما أن رأتنا الأرانب حتى قفزت إلى وهدة ثم مرقت كالسهم إلى أخدود، ثم تسلقت الجبل ونحن في أثرها نتبعها من غير هوادة، نرتقي الهضاب ارتقاء، ونلقي بأنفسنا من الجبال إلى السهول إلقاء، وإشارات القائد تقذف بنا يمينا أو يسارا، طورا مقبلين وطورا مدبرين، مرة في صياح وجلبة، ومرة في حذر وسكوت، تارة نعلو وتارة نهبط، وهكذا كانت تستمر المطاردة ساعات متواليات والحيوان التعس ينتقل من ساحة إلى ساحة، يطلب النجاة وراء الصخور وفي الصدوع وفوق الربى وتحت الأرض، ونحن وراءه نحاول دفعه إلى السهل وهو يأبى الا الوعر، تقوده غريزة البقاء فان اخطأ المسكين التقدير وحم القضاء ضاق النطاق وعز الفرار وتلقفته نيران البنادق من كل صوب فيخر صريعا ضاربا أعلى المثل في الزوغان والعناد، والصبر على الجهاد. وقد بلغ حماس القوم في المطاردة هذا اليوم حد الجنون، وكاد يقضي على أحدنا، وهو أحمد بك بالموت على أبشع صورة لولا أن قدرت له السلامة، ذلك أنه اندفع وهو مأخوذ وراء غزالة فجرت الغزالة إلى جرف صاعد في جدار الجبل، فلحق بها وأطبق عليها ولكنها أفلتت منه، ولما انطلق وراءها انهار الجرف فهوى بجسمه من شاهق فتشبث بصخرة ناتئة وأصبح معلقا بين السماء والأرض.