الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 119/خزائن الكتب في القاهرة

مجلة الرسالة/العدد 119/خزائن الكتب في القاهرة

مجلة الرسالة - العدد 119
خزائن الكتب في القاهرة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 10 - 1935


على ذكر الخزانة الزكية

للدكتور عبد الوهاب عزام

قرأت في إحدى الجرائد أن وزارة المعارف عزمت على نقل الخزانة الزكية - مكتبة أحمد زكي باشا رحمه الله - من مكانها في قبة الغوري إلى دار الكتب العامة. ويرحم الله زكي باشا؛ لو كان حياً لصال بلسانه وقلمه، وملأ الدنيا حجاجاً، وشغل رجال الحكومة بزياراته وأحاديثه، ليدافع عن كتبه العزيزة عليه التي أنفق عمره في جمعها، وأقامها مقام الأولاد فمنحها فكره وقلبه، فيمنعها أن تنقل من مكانها الذي اختاره في قبة السلطان الغوري. وكان رحمه الله معجباً بالغوري إعجاباً طوى ما بينهما من عصور، فكان إذا تحدث عنه قال: (صديقي السلطان الغوري). لكن شيخ العروبة الذي كان نشاطاً لا يفتر، وحركة لا تسكن، وعملاً لا يمل؛ قد طواه الردى، فأصبحت (الخزانة الزكية) الخزانة اليتيمة

ومن قبل نقلت إلى دار الكتب الخزانة التيمورية التي جمعها من أقطار الأرض العلامة التقي النقي أحمد تيمور باشا رحمه الله وليست هذه سنة رشيدة؛ ليس سنة رشيدة أن تجمع الكتب في مكان واحد، وتحرم القاهرة المعزية إلا من مكتبة واحدة يزدحم فيها القراء من كل قبيل، ويلتقي فيها الباحث المدقق الذي يستقصي المخطوطات القديمة، والقارئ الذي يزجي وقته بقصة ملهية، ويفد إليها أهل القاهرة من المحلات الدانية والقاصية

لا بد لنا من مكتبة عامة جامعة كدار الكتب، ولكن لابد لنا معها من مكتبات خاصة كالخزانة التيمورية والخزانة الزكية، يقصدها الباحثون المنقبون، ويؤمها خاصة المطالعين، فيجدون مكاناً ساكناً يسكنون إليه ويتعارفون فيه، ثم تكون لكل مكتبة خصائص معروفة تجذب إليها صفاً من الباحثين؛ ولابد لنا، إلى هذه وهذه من مكتبات محلية، يستفيد منها أهل كل محلة في القاهرة، يجدونها قريبة إليهم، ويلفون كتبها ميسرة لهم

كان من سنن الحضارة الإسلامية الإكثار من خزائن الكتب الكبيرة والصغيرة في كل مدينة، وكان لكل مسجد كبير خزانة كتب، فكانت القراءة ميسورة لكل طالب في كل حي وفي كل مسجد، وليس يتسع المجال هنا للحديث عن خزائن الكتب في المدن الإسلامية القديمة في المشرق والمغرب فهو حديث طويل، وحسبك أن أبو تمام عوقه البرد في همذ فوجد في إحدى خزائنها ما يسر له اختيار حماسته، وأن ياقوتاً الحموي أقام في مرو الشاهجان فأفاد من اثنتي عشرة خزانة بها، في كل واحدة آلاف المجلدات. وهو يقول في معجم البلدان: (فكنت أرتع بها، وأقبس من فوائدها. وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن). هذه مرو الشاهجان، فما ظنك ببغداد والقاهرة وقرطبة؟ كانت قرطبة لا تخلو دار كبيرة فيها من خزانة كتب

وكان في الآستانة إلى عهد قريب زهاء أربعين خزانة، في كل جامع كبير واحدة، وكثير منها يشرف على حدائق، وتتهدل الأشجار عند منافذها. فليس يمل القارئ الجلوس بها، ولا يزعجه عن القراءة لغو ولا جلبة. وقد يجلس المطلع في مكتبة الفاتح فيود أن لا تنتهي القراءة ولا ينتهي الوقت. وقارئ الكتب أحوج الناس إلى المكان النزه الهادئ، يوحي السكينة إلى نفسه، ويجمع للمعرفة فكره، ويحبب إليه المثابرة والدأب. فأين من هذا دور الكتب الكبيرة المطبقة على المطالع بجدرانها، وجلبتها، والتي تقطع عليه فكره بمناظر الداخلين والخارجين. يود قاصدها أن يحصل أقل ما يريد في أقصر وقت فيسارع إلى الخروج. وكم ينتظر حتى يظفر بالكتاب المطلوب؟

وقد كان في القاهرة خزائن فرقتها يد الزمان العسراء، ولعبت بها غيره الهوجاء، ثم جمعت بقية الأحداث منها في دار الكتب المصرية؛ وقد رأينا وزارة الأوقاف إلى عهد قريب تجمع الكتب من المساجد فتضعها في الخزائن الزكية. لقد أحسنت الحكومة بما فعلت حينما كانت الكتب عرضة للضياع، غير مهيأة للانتفاع، ولكن الأحوال تغيرت، ودار الكتب ضاقت بما فيها، وغصت بزائريها. فعلينا أن نتدارك اليوم ما عجزنا عنه بالأمس، فنعنى بتجهيز القاهرة بخزائن الكتب المختلفة في المحلات المختلفة. ونحتفظ بما في المساجد من الكتب إن كان لها بقية لنجعلها نواة لمكتبات كبيرة

ولم لا يكون لنا خزانة في الجامع العتيق، وكان مثابة العلم في مصر زمناً طويلاً؟ ولم لا يكون لنا خزائن في جامع ابن طولون، والجامع الأقمر، وخانقاة سعيد السعداء التي كانت مأوى كبار العلماء، ومساجد المؤيد، وبرقوق، والسلطان حسن، وكانت هذه المساجد معاهد للدرس، وقد اتخذنا بعضها اليوم مدارس أيضاً، فلماذا لا نتخذها معاهد لمطالعة الكتب؟ لماذا لا ننتفع بهذه الأبنية الواسعة الشاهقة فنفسر أموالنا، ونعرف آثارنا، ونصل ماضينا بحاضرنا؟ وليت خزائن الكتب تتقسم العلوم فيقصد الباحثون الجامع العتيق ليقرأوا الفقه والحديث وكل ما كتب عن الفسطاط ومصر في عهد الفسطاط، ويذهبون إلى الجامع المؤيد ليقرأوا ما كتب عن المماليك، ويقصدون خانقاة سعيد السعداء أو تكية المولوية لقراءة التصوف، وهلم جرا

هذه آراء يلقاها بالاستهزاء الذين خلعوا أنفسهم من تاريخنا وسننا، ولكني أرجو أن يكون لها من تفكير المفكرين نصيب

وبعد، فينبغي أن تبقى الخزانة الزكية في مكانها إبقاء على السنن الصالحة، وتيسيراً للقراءة على طلابها، واحتفاظاً برغبة صاحب الكتب الذي بذل في جمعها من ماله وعمره، ولبث حياته يحنو عليها حنو الأب الشفيق على أولاده. ولا يزال أمام وزارة المعارف سعة للتفكير والعدول عن الخطأ الذي همت به.

عبد الوهاب عزام