الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 118/في بلاد اليونان

مجلة الرسالة/العدد 118/في بلاد اليونان

بتاريخ: 07 - 10 - 1935


قدر

للأديب أحمد الطاهر

وقفنا خاشعين صامتين مطرقين، وأنصتنا إلى الكاهن يتكلم في وناء وتؤدة ووقار: يقص علينا من التاريخ قصصا. وما كنا نفهم من يونانيته ونحن مصريون شيئا، ولكن ظلمة المكان، ورهبة المعبد، وخشوع السامعين من أهل اليونان، وصوت الكاهن يرن تحت هذه القبة العتيقة، كل ذلك قد استولى علينا فأنصتنا كالسامعين وأطرقنا كالفاهمين، وتتبعنا حديثه كما لو كان يتكلم بلسان عربي مبين

وانتهى الكاهن من قصصه وصافحناه، وشكرنا له فضله وخرجنا وعلى وجوه اليونانيين بما سمعوا من الكاهن آثار مقروءة من السرور والألم، والرضا والسخط، والفخار والحسرة، مجتمع بعضها إلى بعض

قلت لصاحبي اليوناني المتمصر: (عجل فأنني جدا مشتاق إلى فهم حديث الكاهن، وما أحسبه إلا لذيذا ممتعا) قال: (إنه حقا لذيذ ممتع، وسأقصه عليك كما سمعته من فمه. (وسكت برهة كأنما يستجمع ذكريات، ثم قال: (أنظر إلى هذه الشجرة العتيقة القائمة في فناء الدير!) فنظرت إليها وقلت: (ليست إلا شجرة عتيقة قائمة في فناء الدير!) قال: إنها صفحة من صفحات التاريخ قرأها لنا الكاهن، وقرأ لنا صفحات أخرى منها دير آخر يسمى ميفاسبليون ممرنا عليه في طريقنا من أثينا إلى دير أجيالافرا الذي نحن فيه. ولا تنس قبل أن أقص عليك الحديث أننا على قمة جبل رفع هامته في الفضاء ألف متر، ثم استقر ثم اكتسى رداء أخضر من شجر الصنوبر، وطاول به جبال سويسرا وازدهى به من بين بقاع العالم التي خلعت عليها الطبيعة جمالها. واعلم أن هذا المكان. . .) قلت: (يا صاحبي! حنانيك لا تطل علي ولا تباعد بيني وبين الحديث فما طلبت وصف ما رأيت وما رأيت، وأنا وأنت مهما حاولنا وصف المكان فلن نجعل له من ألفاظنا صورة تصلح لأن تدنو من حقيقته، وحسبي وحسبك أننا متفقان على أن الله قد خلق هذا المكان فيما خلق فأبدع خلقه، وصوره فيما صور فأحسن تصويره، وجعل في الناس صدق النظر وحسن التمييز فتراموا عليه من كل حدب وصوب ينعمون بجماله ويسبحون بحمد خالقه) قال: (ولكنك لا تفهم كلام الكاهن ولا تتذوق حديثه إلا بعد مقدمتي الطويلة فأصبر على ما لم تحط به خبرا. . . إن هذا المكان لم يكن الوصول إليه في الزمن السالف يسيرا كما هو الآن: فهذه الجبال التي يزحف عليها قطار السكة الحديدية جاهدا كالأسير يرسف في الأغلال، ولا يصل إلى عليائها إلا بأمراس من حديد وأسنان كأسنان المشط ترفده كلما ارتفع، وتصده كلما ارتد أو هم أن يقع، هذه الجبال لم يكن من السهل أن يرقى إليها الإنسان، ولا أن يخترق جوفها كما يفعل الآن، ولا أن تطأ هاماتها الأقدام، ولا أن تفسد جمالها هذه المدينة القائمة على الحديد والنار، ولا أن يعكر صمتها ويغض من جلالها صخب الناس في الليل والنهار. ولذلك اتخذها الرهبان مثابة، ولجأوا إليها يتعبدون، وما أحسب الجبال قد برمت بهم وقد وجدت بينها وبينهم صلة وشيجة من الصمت والوقار والرهبة والتنزه عن هوان المدنية، إذا علمت هذا فأعلم أن الجبال والرهبان قد أنس بعضهم ببعض وقطعت الطبيعة ما بينهم وبين سائر الخلق من أسباب، واتخذ بعضهم اجيالافرا التي نحن فيها مثابة ومتعبدا، أقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة التي سمعت فيها حديث الكاهن، واتخذ بعضهم ميفاسبليون التي مررنا بها مثابة ومتعبدا آخرين وأقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة؛ وسكن الرهبان إلى الجبل، وسكن الجبل إلى الرهبان

ولكن ظلم الإنسان للإنسان لا تنقطع أسبابه، ولا تنسد أبوابه، ففي عام 1821 الذي بدأ الكاهن منه حديثه كان أهل اليونان قد أضناهم الضيق، وأعيتهم الحيل، وأمضهم الظلم، مما يلقون من عسف الترك وحكمهم الجائر. ففي غسق الليل مشى رؤساء القبائل وكبار الرهبان بعضهم إلى بعض يهمسون بالثورة والتمرد، وما كانوا ليستطيعوا إعلان الثورة أو الاصحار بالتمرد، بل ما كانوا ليستطيعوا أن يعلنوا ما دون الثورة والتمرد مما يسمى شكوى أو رجاء أو استرحاما أو ما دون ذلك من ألفاظ الذلة والهوان. ولقيت الدعوة الخافتة من النفوس استعدادا. واجتمعوا تحت ستار العبادة في هذا المكان ليدبروا أمرا: قال الأحبار: (نحن قادة الثورة وحاملو لوائها باسم الأمة واسم الدين.) وقالت العشائر: (آمين!) وقال كل حبر من الأحبار: (أنا قائد القواد ولوائي هذا هو اللواء الأعظم بمالي من المكانة بين الحاضرين)، فدبت بينهم الشحناء وانقسموا شيعا بعضهم لبعض عدو

ثم خرج إليهم كاهن هذا الدير وفي يده لواء واحد وقال: (لا لواء إلا هذا اللواء الأعظم: عليه صورة المسيح، أتجدون خيرا منه تستظلون بظله وترتدون إلى فيئه؟) قالوا: (إنا معك وإنا لك لأجناد مخلصون) وانضموا إليه خاضعين يستظلون بلوائه الكنسي، وهذا هو اللواء الذي كان الكاهن يشير إليه وهو يحدثنا، وهذا النصب الذي تقيمه الحكومة اليوم إنما يقام تمجيدا لهذا المكان وتخليدا لهذه الذكرى؛ فهنا اشتعلت نار الثورة الأولى، وهنا اتحدت القبائل والأحبار، وهنا وضع أساس استقلال البلاد، وجاهد القوم أعواما ذاقوا فيها حلاوة النصر ومرارة الخذلان حتى استنجدت الدولة العثمانية ببطل مصر إبراهيم باشا؛ وما هي إلا أيام حتى بدا القائد العظيم من فوق هذه الجبال، ثم انصب على هذا الدير ووقف بجواده تحت ظل هذه الشجرة العتيقة، وقد انتشرت جيوشه على الجبال في سفحها وعلى قممها وفي وديانها، وأحاطوا بالمكان إحاطة السوار بالمعصم. قال إبراهيم باشا: (احرقوا هذه البيعة حتى يخضع من فيها من الثوار) فحرقوها وخضع من فيها من الثوار، وارتد ميمما البيعة التي في ميفاسبليون، وكأنه عز عليه أن يمضي في حرق البيع والأديرة، فأرسل إلى رهبانها كتابا قال فيه: (إما أن تخضعوا أو أحرق بيعتكم كما أحرقت بيعة اجيالافرا) واجتمع الأحبار يتشاورون، ثم دفعوا إليه بكتاب يقولون فيه: (إنك إذا حاربتنا ثم انتصرت علينا فما في النصر ما يدعوا إلى الزهو والفخار، فما انتصرت إلا على بضعة نفر من الرهبان والأحبار، وأنت ذو حول وقوة بما جمعت من جيوش جرارة، وخيل كرارة، وأسلحة ممشوقة، ودروع محبوكة، وأما نحن فعددنا خفيف، وشأننا ضعيف، ليس بأيدينا من سلاح إلا هذه المسابح نسبح الله عليها في همس ووناء، وليس على أجسامنا إلا هذه المسوح السوداء، نحمي بها أجسامنا من قر الشتاء، ولا مركب لنا في هذه الجبال إلا أقدامنا الكليلة أو بغالنا الهزيلة، وإن قدر لنا أن ننتصر عليك، ونحن على ما ترى من ضعف وهوان، فما أشده من عار، وما أمره من انكسار، فتدبر أمرك وأمرنا، واقض بالرأي الأصيل)

قرأ إبراهيم خطاب الأحبار فاستشاط غضبا وأمر بالجزيرة أن تحرق كلها بما وسعت. وأشعل الجند فيها النار، والنار إذا امتدت في هذه الجبال وغابتها لا تبقي على شيء بعدها ولا يصدها شيء. إلا أن يرسل الله من السماء أمطارا، أو يجري الوديان أنهارا. واحترقت الجزيرة وكل ما في الجزيرة: إلا هذه الدير الذي يسكنه هؤلاء الأحبار، فما امتدت إليه شرارة من نار، وبقي معتصما بمكانه العالي، يهزأ من فعل النار ولا يبالي! وقال الناس: (حقا تلك إحدى المعجزات!)، مضى على هذا الحادث مائة سنة وعشر سنين حتى كان عام 1934، وإذا بالدير وبيعته تندلع منهما النار، لا يعرف لها سببا، ولا يصد لها لهب، وأصبح الناس فما وجدوا إلا هشيما تذروه الرياح. وفزعوا يحاولون إنقاذ بعض ما حوى الدير من تحف ونفائس فأنقذوا شيئا قليلا. وبحثوا عن كتاب إبراهيم إلى الأحبار وصورة كتاب الأحبار إلى إبراهيم فإذا النار لم تبق على واحد منهما. وماذا تغني كتب القواد والأحبار، إذا حم القضاء واشتعلت النار؟ أليس حديث الراهب لذيذا وعجيبا؟)

قلت: (وأعجب ما فيه هذه النار: أشعلها بالأمس إبراهيم فكانت على الدير بردا وسلاما، وأشعلها اليوم القدر فتركته حطاما.)

اليوزباشي أحمد الطاهر