مجلة الرسالة/العدد 117/لأحياء الآداب العربية والتراث القومي
→ الجمال البائس | مجلة الرسالة - العدد 117 لأحياء الآداب العربية والتراث القومي [[مؤلف:|]] |
حول 14 سبتمبر ← |
بتاريخ: 30 - 09 - 1935 |
ومهمة دار الكتب المصرية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يستطيع الذين درسوا الآداب التاريخية الغربية، وقرأوا تواريخ الأمم الغربية في تلك الموسوعات والآثار الجليلة التي تمتاز بطابعها العلمي الدقيق، أن يقولوا بحق تاريخ الإسلام والأمم الإسلامية لم يكتب حتى عصرنا
إن الآداب العربية تزخر بالموسوعات والآثار التاريخية في كل عصر، وكل قطر؛ ومنها بلا ريب آثار كثيرة تمتاز بدقتها ونفاستها؛ ولكن هذه الآثار تقف أولاً منذ عصر بعيد، فلا تكاد تجد في العربية موسوعة أو مؤلفاً تاريخياً جليلاً منذ القرن العاشر الهجري، وهي من جهة أخرى لا يمكن أن تعتبر أكثر من مادة لتغذية المؤرخ الحديث بما يحتاج إليه من التفاصيل والوثائق، ومن الأنصاف أن نقول إن هذه المادة تمتاز بغزارتها في عصور كثيرة، ولكن من الأسف أن أغلبها ما زال يحتجب عن أعيننا في أروقة المكاتب والمجموعات الخاصة، فلا يصل إليها الباحث إلا بعد الجهد المضني
وهذه مسألة تستحق الاهتمام من كل أولئك الذين يتصلون بالمباحث الإسلامية والتاريخية، وأولئك الذين يشرفون على توجيه الثقافة القومية، وفي مقدمتهم وزارة المعارف العمومية والجامعة المصرية. فإلى الآن لم يكتب تاريخ مصر الإسلامية، ولا مصر الحديثة بما يجب من دقة وإفاضة، وإلى الآن لم تعرف مصادر التاريخ المصري معرفة حسنة حتى من كثير من أولئك الذين يعنون بكتابته أو بتدريسه؛ وإنه لما يبعث إلى الدهشة كما يبعث إلى الأسف أن نجد الكتب الدراسية التي يعتمد عليها الشباب في دراسة التاريخ المصري أو الإسلامي بوجه عام، خلاصة مشوهة اشتق معظمها من المؤلفات الأجنبية، وهي لذلك تفيض بالأخطاء والمثالب، وينقصها روح الأنصاف والتمحيص؛ هذا بينما تلقى الكتب التي تعنى بتواريخ الأمم الأجنبية عناية أوفر لأنها تعتمد في مادتها على المصادر القومية المنظمة، ويجد فيها الشباب من التبسط والتمحيص ما لا يجده في كتب التاريخ المصري أو الإسلامي
إن دار الكتب المصرية تزخر بمئات وألوف من مصادر التاريخ الإسلامي وتاريخ مص الإسلامية بنوع خاص، وبين هذه المصادر موسوعات جليلة في مختلف العصور، ومنها ما كتبته أقلام معاصرة قديرة؛ وفيها من المواد والتفاصيل والوثائق ما يغتبط له الباحث ويحقق غايته. ولكن كم من هذه المصادر الجليلة أتيح له أن يرى الضياء حتى يومنا؟ ومع ذلك فأن هذه الآثار التي أخرجت حتى اليوم لم تلفت أنظار الباحثين والقراء لأنها لم تنل حقها من التعريف أولاً، وثانياً لأن معظمها ما زال فريسة الناشرين المتجرين الجهلة، يخرجونه في أثواب عتيقة منفرة يقبل عليها الباحث مرغماً ويلقى في مراجعتها من المشقة ما يلقاه في مراجعة المخطوطات القديمة ذاتها
هذا وما زالت المراجع والموسوعات القديمة التي وضعت بين أيدي الباحثين والكتاب مستقى خصباً لنقل النصوص والروايات كما كتبت منذ مئات السنين؛ وما زال معظم المؤلفات التاريخية المعاصرة يقوم على هذا النقل المجرد؛ ومثل هذه المؤلفات لا قيمة له من الوجهة العلمية، لأن عصر النقل المجرد انتهى منذ بعيد، وأصبح التاريخ في عصرنا علماً جليلاً يقوم على المباحث والمقارنات العلمية والنقدية والاستنباط المسند، وأصبح وثيق الصلة بكثير من العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فمن المؤلم أن يرغم الشباب في هذا العصر الذي يعتبر فيه التاريخ مرآة الحضارة ودعامة للعاطفة القومية، على أن يقرأ التاريخ الإسلامي والتاريخ القومي في هذه الكتب الممسوخة التي استخرجت دون بحث أو تمحيص من الروايات القديمة، ولا فضل لمصنفيها - إن كان ثمة فضل - إلا في الاختصار والتبويب والطبع الأنيق
وقد آن أن نتحرر من هذا الجمود الذي يشل ثقافتنا التاريخية، ويحجب عنا تراث الماضي الزاخر، وأن نستخرج من هذا التراث نفائسه، ونقدمها لجيل العصر في أثوب العصر وأساليبه. وأول ما يجب لتحقيق هذه الغاية في رأينا هو أن يبذل جهد صادق للتعريف بهذا التراث وقيمته وأمكنة وجوده. وهذه مهمة تستطيع دار الكتب المصرية أن تؤدي فيها أعظم دور. ولقد عكفت منذ أعوام على دراسة هذا الجانب من تراثنا القومي، فكتبت عدة دراسات ومباحث عن أقطاب الرواية المصرية مثل ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق والمسبحي والقضاعي والنوريري والعمري والقلقشندي والمقريزي وابن تغري بردى والسخاوي وابن اياس، استعرضت فيها تراجمهم وجهودهم وآثارهم المنشورة والمخطوطة استعراضاً وافياً، وعنيت فيها عناية خاصة بالتعريف بعشرات بل مئات من الآثار والمصادر الجليلة التي تتعلق بتاريخ مصر الإسلامية، والتي ما زالت مخطوطة بعيدة عن التعريف والتداول تحجبها ضلمات النسيان في أروقة دار الكتب. بيد أن مثل هذه المجهودات الفردية لا يمكن أن تحقق الغاية المنشودة. وعندنا أن دار الكتب المصرية يجب عليها أن تعتني بوضع فهرس خاص لمصادر التاريخ المصري العربية المنشورة والمخطوطة بنوع خاص، تتحرى في وضعه أحدث الطرق العلمية وتصنف المصادر فيه حسب العصور، وتوصف محتوياتها وصفاً علمياً دقيقاً؛ ولا تقتصر في ذلك على المصادر الموجودة، بل تضمنه أيضاً ذكر المصادر والآثار المخطوطة المحفوظة في مختلف المكاتب الأجنبية بالاعتماد على فهارس هذه المكاتب أو بإرسال مندوب أو أكثر للخارج لدراستها وتدوين أوصافها وتصوير ما يجب تصويره منها. ثم يوضع إلى جانب هذا الفهرس العربي، فهرس آخر يتضمن جميع المصادر والآثار الأجنبية المتعلقة بمصادر التاريخ المصري في جميع العصور، وفي جميع اللغات الحية، ويصنف تصنيفا علميا دقيقا؛ وتبذل دار الكتب جهدها لاستكمال ما نقصها من هذه المؤلفات، وينشر الفهرسان، ويصبح كل منهما مرجعاً نفيساً لمصادر التاريخ المصري ووثائقه؛ وبذلك تحظى آثارنا المحجوبة بشيء من التعريف، ويسهل سبيل البحث على الباحثين، ويفتتح عهد جديد لدراسة التاريخ المصري وكتابته
ثم يجب إلى جانب ذلك أن تدرس جميع الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر وأنظمتها الإدارية والاجتماعية والاقتصادية مما تحتفظ به دار الكتب ذاتها، أو الدفتر خانة المصرية، أو وزارة الأوقاف أو غيرها؛ ومن المعروف أنه توجد لدينا طائفة كبيرة من هذه الوثائق، ولا سيما مما يتعلق بالعصر التركي، وفيها الكثير مما يلقي الضياء على طبيعة الأنظمة الإدارية والاجتماعية والثقافية في مصر في هذا العصر. ومعظم هذه الوثائق التي تحتفظ الدفتر خانة المصرية بكثير منها محررة بالغة التركية، ويقتضي ترجمته أو تلخيصه. ونذكر أن الأنظار اتجهت منذ أعوام إلى هذه الوثائق، وعرفت أهميتها وقيمتها التاريخية، وقيل لنا إنه سيعنى بترجمتها وتنسيقها، ولا نعلم ماذا تم بعد ذلك في شأنها. بيد أنه لا ريب أن هذه الوثائق المختلفة، ومنها بوزارة الأوقاف حجج أوقاف قديمة ترجع إلى القرن التاسع الهجري؛ إذا نظمت ولخصت في فهرس دقيق جامع، تكون مرجعاً نفيساً لتاريخ مصر الإداري والاجتماعي والاقتصادي والقضائي في هذه العصور
وتوجد ثمة في هذا الميدان مهمة علمية أخرى تستطيع دار الكتب والجامعة المصرية والجامعة الأزهرية أن تضطلع بها، هي نشر طائفة من الآثار والمصادر الإسلامية والمصرية الجليلة مما تغص به دار الكتب المصرية. ولقد أخرجت لنا مطبعة بولاق ثبتا حافلا من هذه الآثار الجامعة في أواخر القرن التاسع عشر، فكانت مأثرة علمية جليلة لولاها لبقيت المكتبة العربية عاطلة حتى يومنا من أمهات المصادر والمراجع الكبرى؛ وقد أرادت دار الكتب أن تستمر في الاضطلاع بهذه المهمة، وما زالت تعمل لإخراج بعض الموسوعات والآثار الجليلة؛ وقد أخرجت بعض هذه الآثار، ولا سيما موسوعة (صبح الأعشى) للقلقشندي، ولكن عملها في ذلك بطيء جدا، ينقصه الطابع العلمي قبل كل شيء؛ ومن الواجب أن تنظم هذه المهمة تنظيما علميا، وأن تشرف على أدائها هيئة فنية قديرة، ومن الواجب أن تضاعف الجهود لإخراج هذه الآثار والموسوعات في فترات معقولة، إذا ما زلنا نتلقى أجزائها في فترات متباعدة، وقد يستغرق إخراج الجزء الواحد عامين أو ثلاثة. ثم إن الجامعة المصرية والجامعة الأزهرية تستطيع كلتاهما أن تقوم في هذا السبيل بمجهود قيم؛ ولا نعلم أن إحدى الجامعتين قامت إلى اليوم بإخراج شيء يذكر من الآثار الإسلامية المخطوطة، هذا بينما ترى الجامعات والهيئات العلمية الأوربية والأمريكية تشرف باستمرار إلى إخراج الكثير من هذه الآثار؛ ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن كتاب (النجوم الزاهرة) لأبي المحاسن بن تغري بردى الذي تقوم الآن بإخراجه دار الكتب المصرية، قد أشرفت على إخراجه منذ أكثر من عشرين عاما جامعة كاليفورنيا الأمريكية، وقد تولى نشره وتحقيقه المستشرق الأمريكي وليم بوير؛ وان الجزء الفاقد من تاريخ مصر لابن اياس الذي أخرجته مطبعة بولاق منذ أربعين عاما، تولى إخراجه الأستاذ باول كاله الألماني بإشراف جمعية المستشرقين الألمانية وهكذا. ومن واجب مصر، باعتبارها زعيمة الثقافة العربية والإسلامية أن تأخذ بنصيبها من حركة أحياء الآثار الإسلامية على يد هيئاتها العلمية الكبرى، وفي مقدمتها الجامعتان المصرية والأزهرية. ولا ريب أن إشراف الجامعتين الكبيرتين على هذه الحركة يسبغ عليها قسطا من الطابع العلمي الذي ننشده لآثارنا وموسوعاتنا؛ ذلك أن ما ينشر منها اليوم على أيدي الناشرين المتجرين يخرج في صور يرثى لها من المسخ والتحريف؛ وليس من المبالغة أن نطلب بهذه المناسبة إلى دار الكتب المصرية أن تسن من القواعد والقيود لاستنساخ المخطوطات ثم لنشرها ما يكفل إخراجها على أيدي ناشرين من الطراز الأول، يقدرون قيمتها العلمية ويخرجونها في أثواب محترمة، ويعرضونها للبيع بأثمان لا تخرج عن حد الاعتدال
هذه خواطر واقتراحات نعتقد أنها تجول في أذهان كثير ممن يعنون بالمباحث الإسلامية وحركة إحياء الآداب العربية، بل نعتقد أنها ليست بعيدة عن أذهان المشرفين على مصاير تعليمنا وثقافتنا. وإذا كنا نخص ثقافتنا التاريخية القومية وإحياء تراثها ومراجعها بشيء من الاهتمام، فذلك لأننا عكفنا على دراسة هذه الناحية من حركتنا العلمية والأدبية مدى أعوام طويلة، ولمسنا فيها أوجه النقص والعمل بصورة واضحة؛ وقد كنا ومازلنا نعتقد دائما أن دار الكتب المصرية، وهي أعظم مستودع لتراثنا المنسي، هي أول وأولى هيئاتنا بالعمل لتحقيق هذه الغاية، ذلك لأنها تضطلع بالفعل بناحية مهمة من هذه المهمة الجليلة؛ وكل ما يتطلب إليها هو أن تعمل لتنظيمها وتوسيع مداها على أسس علمية فنية تكفل أداءها بصورة مرضية؛ ولو عنيت جامعتنا المصرية، وجامعتنا الأزهرية بأن تأخذ كلتاهما بنصيبها من هذه الحركة لاكتملت لدينا أسباب النهضة، ولاستطاعت مصر أن تضطلع برسالتها في إحياء الآداب العربية والإسلامية وواجبها في إحياء تراثها القومي.
محمد عبد الله عنان