الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 117/في الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة/العدد 117/في الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة - العدد 117
في الأدب الإنجليزي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 30 - 09 - 1935


الكائنات الغيبية في شعر شكسبير

بقلم خيري حماد

مقدمة

لا شك في أن عبقرية شكسبير ظهرت في مناحي عدة وصور مختلفة، وليس من السهل على أي شخص مهما كانت نزعته ومهما تباينت عقليته أن ينكر أن شكسبير هو شاعر بريطانيا الأعظم وكبير من كبار الشعراء العالميين، ولكن ويا للأسف اختلف النقاد في إنكلترا وفي غيرها من بلدان العالم في تحديد الدرجة الممتازة التي وصل إليها هذا الشاعر. فأعتبره البعض أعظم شاعر بزغ نجمه على هذه البسيطة لا في عصره فحسب، بل في العصور التي سبقته أو تلته. وأنكر البعض الآخر هذا الادعاء وتحاملوا عليه تحاملاً ظاهراً، معتقدين أن عظمته لا تفوق في أي ناحية من نواحيها عظمة جوتي الألماني ودانتي الإيطالي

إن من الصعب أن أبرهن في هذه العجالة على عظمة شكسبير وتبريزه على غيره من شعراء العالم، ولم أقصد فيها إلا البحث في ناحية واحدة من مناحي تفكيره العميق وخياله المبدع الذي تناول بواسطته جميع نواحي الحياة من عقائد وتقاليد فدونها في شعره ورواياته. نعم كان من الصعب عليه أن يوفق بين عقائده الشخصية وبين عقائد مجتمعه البشري، ولكنه خرج من هذا الميدان مكللاً بأكاليل من الغار وتيجان من الظفر

لم تكن الخرافات والغيبيات عقيدة راسخة في تفكير شاعرنا؛ فقد كان دائم الاضطراب والشك في هذه الناحية من مناحي الغموض والخفاء العقليين. لقد حاول في رواياته أن يبتعد عن العقائد الشائعة العامة، ولكنه لم يستطع ذلك لتخوفه من الرأي العام السائد في تلك الأيام الرهيبة

عقائده الدينية:

ولد شكسبير سنة 1564 إبان الدور الأول من حكم الملكة اليصابات في عصر أشتد فيه النزاع الديني واختلفت فيه العقائد، حتى أصبحت مصدر شقاء وينبوع استبداد ساد إنكلترا قرناً من الزمان. ولنراجع في الفقرات التالية صفحات التاريخ فنرى كيف انتشرت البروتستنتية في إنكلترا، وبأية صورة كان نشوءها وتطورها

كلنا يعرف أن الملك هنري الثامن أراد طلاق امرأته الأسبانية كاترين لعشقه غادة من غادات البلاط، كانوا يسمونها (آن بولين) ولم يكن في الإمكان في ذلك العصر تحقيق تلك الرغبة الجامحة، فما وسع هنري إلا أن يحدث نزاعاً أشتد أمره مع رئيس الكنيسة الأعلى وحامي حماها في الشرق والغرب. طغت عليه الروح الاستبدادية روح العظمة والتفوق، فحدثته نفسه بالانفصال عن كنيسة رومة، ولم يلبث أن أعلن ذلك الانفصال ونصب نفسه رئيساً أعلى للكنيسة الإنكليزية

ولم تكن هذه الحركة في بدء أمرها إلا حركة سياسية محضة لم يشبها شائب من الدين والعقائد، ولكن ما لبث أن فارق هنري دنياه ونصب ولده الطفل أدوارد ملكاً على عرش بريطانيا، فكان له من الأنصار والمساعدين نفر أشبعت نفوسهم بروح البروتستنتية فأعلنوا أن الكنيسة الإنكليزية قد غدت منفصلة تمام الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية ووضعوا كتابين من كتب الصلاة ليقرأ في الكنائس بدلاً من الكتب القديمة

حركة جريئة أعقبتها فترة إحجام ورد فعل. مات إدوارد فتبوأت ماري تيودور العرش وكان لتربيتها الكاثوليكية اثر عظيم في نفسها ما لبث أن دفعها للإعلان عن فساد جميع القوانين التي ظهرت في عهد سلفها، وعن رجوع الكنيسة الإنكليزية إلى الحظيرة الكاثوليكية. ولتحقيق تلك الرغبة في نفسها سنت قانوناً تحتم فيه على كل قس أو راهب أن يرجع إلى الحظيرة القديمة وإلا كان جزاؤه الموت والعذاب

أخيراً انتقلت تلك الملكة الغاشمة إلى جوار ربها وارتقت اليصابات العرش. ونظراً لروحها الاستقلالية ولميلها إلى الطموح والعظمة لم تلبث أن أعلنت بعد مرور سنة من تسنمها العرش الانفصال التام عن الكنيسة البابوية وتنصيبها نفسها رئيسة عليا للكنيسة الإنكليزية

لو أتيح لنا الاطلاع على كثير من الرسائل الشخصية التي كتابها الشاعر العظيم لأصدقائه وأخدانه لأمكننا الوقوف على عقائده وأفكاره الدينية، هناك أمور عدة تحملنا على الاعتقاد بأن شكسبير كان رجلاً ديناً خيراً، ولكن حرية فكره كانت سبباً دائماً في انشغاله بأسئلة لا حد لها عن الموت والحياة غير متأثر بالعقائد الدينية السائدة في عصره. كان والده بروتستنتياً متطرفاً، فلا بدع أن نراه متأثراً أثر والده، متحاملاً على البابوية والكثلكة أشد التحامل وأقساه. وبرغم هذا التحامل الظاهر فأن الكنيسة البابوية ادعته في كثير من الظروف والأحيان ابناً باراً من أبنائها وعلماً من أبرز أعلامها. واستندوا في ادعاءاتهم هذه على كثير من البراهين والحجج التي إن لم تكن ضعيفة في حد ذاتها، فلا تصل إلى تلك الدرجة من الإقناع التي يتوخونها ويطلبونها

قد نستطيع من دراستنا لروايات هذا الشاعر أن نحدد العقائد التي كان يؤمن بها. فلقد صور في هذه الروايات عدداً كبيراً من رجال الدين أمثال الراهب فرنسيس والراهب لورنس، وكان في كل صورة من أمثال هذه الصور يتوخى التبجيل والاحترام لرجال الأكليروس. إلا أن هذه النظرة وهذا الاحترام لم يتجاوزا طبقة الرهبان إلى طبقة البابوات؛ فروايته التاريخية التي تتناول سيرة الملك يوحنا تعد في حد ذاتها أكثر الروايات تحاملاً على البابوية والكثلكة. وعلى الرغم من ازدياد نفوذ البابوية في هذه الأيام وتفوقها على السلطة الزمنية نرى عدداً قليلاً من الملوك يضربون بسلطتها عرض الحائط ويحاولون نزع نير العبودية عن عواتقهم، فكثيراً ما تعرضوا لوكلاء البابا وممثليه وأفحشوا لهم القول غير هيابين ولا وجلين. دعنا نعرض الأقوال الجريئة التي فاه بها الملك يوحنا مجيباً على تدخل البابا في مسائل سياسية لا تعنيه شيئاً فهو يقول:

هل يمكن لأي رجل دنيوي مهما علت سلطته وارتفعت منزلته أن يعارض إرادة الملوك المقدسة؟ فليس باستطاعتك أيها الكردينال أن تضطرني إلى إطاعة رجل حقير لا يسعني إلا الاستهزاء به. اذهب إلى سيدك البابا وأخبره ما أسمعتك من قارص الكلم وزد على ذلك أن ليس لأي قسيس إيطالي أن يتدخل في المسائل الإنكليزية، ومادمنا بمشيئة الله وإرادته قد وجدنا رؤساء لهذه الأمة فلنا الحق وحدنا في السير بها حسبما نشاء ونرغب دون أية مساعدة من إنسان. قل له إن ذلك الاحترام وإن تلك السلطة الغاشمة قد تقلص ظلهما منذ مدة

وفي خطاب آخر من نفس الرواية يعدد الملك يوحنا المساوئ الكثيرة التي كانت الكنيسة تتصف بها في هذه العصور. فالبابا أصبح رجلاً مأجوراً يمكن للملوك أن يستخدموه إذا رشوه بالكثير من الأموال، فليس من واجب الملوك أن يطيعوا رجلاً كهذا الرجل، وهذه النظرية تتبين لنا في مواضع عدة من روايات شكسبير فهو يتخذ من البابا أداة للسخرية والهزء في رواية تيتس أندرونيكس إذ يقول:

(إني لأعلم تمام العلم أنك رجل وفي ورع تحمل بين جنبيك نفساً طاهرة وضميراً حياً، وأن لك حيلاً تماثل الحيل العديدة التي يتبعها البابا في بسط نفوذه وجمع ثروته)

يتبع

خيري حماد