مجلة الرسالة/العدد 115/الدكتور محمد إقبال
→ دراسيات في النقد | مجلة الرسالة - العدد 115 الدكتور محمد إقبال [[مؤلف:|]] |
فلسفة الأسماء ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1935 |
2 - الدكتور محمد إقبال
أكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر
(أن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران ولكن العرب
لا يعرفون شيئاً عن نغماتي الشجية)
(إقبال)
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
حينما ننعم النظر في شعر إقبال واتصافه بمميزات خاصة في الأزمان المختلفة نجد أنه يتمتع الآن بدور ثالث. فقد قطع قبله دورين: أولهما دور نشأته، حين كان إقبال لا يزال فتى يافعاً وطالباً بالمدرسة. فقد بدأ إقبال يقول الشعر باللغة الأردية وهو في صباه، فكان ينال به استحسان زملائه الطلبة، ويجمعهم حوله اغتباطهم بحدة ذكائه وتفوقه عليهم في الشعر. فكانت شهرة إقبال في الشعر بادئ ذي بدء محصورة بين أترابه وأقرانه، فلما انتقل من كلية سيالكوت إلى كلية الحكومة بلاهور بدأ يشترك في مجالس الشعراء ويقول القصائد للاحتفالات السنوية لجمعية حماية الإسلام الشهيرة بلاهور، فذاع صيته بين الخاص والعام.
ينتهي هذا الدور لشعر إقبال سنة 1905، أي قبل سفره إلى أوربا، ويمتاز شعره فيه بسعة الخيال، وابتكار المعاني، ولكنه مجرد عن دقة الفكر والتعمق بالنسبة إلى شعره في أدوار أخرى، ومعظمه باللغة الأردية، تتجلى فيه روح الحب وطلب الجمال وترحيب العشق، وأكبر ميزة لهذا الدور أنه دور أمل لشيء غير معلوم، ففيه تتوق روح الشاعر إلى المجهول، وتنزع إلى الغائب، وتضطرب، كما يظهر لك من ترجمته بيت من أبيات هذا الدور فيما يلي، قال:
(أنا طالب النور، أنا قلق في معمورة هذا العالم أنا مثل الطفل الصغير في ظلام الوجود الحالك مضطرب كالزئبق).
وأما الدور الثاني فهو الزمن الذي قضاه الدكتور في أوربا أي من سنة 1905 إلى سنة 1908. وهذا الدور من شعر الدكتور أقل إنتاجاً من الدورين الآخرين، ويمتاز من الأ بأن أثر مشاهدات أوربا بادٍ فيه، ولكن روح الحب، وطلب الجمال، وترحيب العشق لا تزال متجلية فيه كما كانت في الدور الأول. وقد حدثت فيه حادثة، وهي أن الأبحاث العلمية سطت مرة بنفسية الشاعر، فأراد أن يترك الشعر ويتوب عنه وينصرف إلى العلم، فمنعه عن ذلك صديق قديم له كان حينئذ في لندن، وحاول إقناعه فلم يقتنع، وأخيراً اتفقا على أن يستشيرا فيه أستاذه السر آرنلد. فأيد آرنلد رأى صديقه فعدل عن إرادته. وأكبر ميزة لهذا الدور أن بدأت أفكاره الشعرية تعلو وتتسع حتى ضاق عنها نطاق اللغة الأردية الحديثة السن فمال إلى الفارسية وبدأ يعبر بها عن إلهامه الشعري.
وأما الدور الثالث فيبتدئ من بعد رجوع الدكتور من أوربا إلى الهند، أي من سنة 1908 إلى الآن، وهو الأهم، إذ فيه تدرج شعره في معارج الكمال وتسم سنام المجد وبلغ من دقة المعاني وعمق الفكر وحسن البيان غاية لم تبلغها الآمال ولا نالتها الأماني. وفيه حلت السكينة والطمأنينة في روح الشاعر محل التوقان والاضطراب، كأنها أدركت ذلك الغائب المجهول الذي حنت إليه طويلاً ونزعت إليه سنين، وفيه خف عن نفسيه الشاعر سلطان المحبة والجمال، وقام مقامه توقان الحكمة والكمال، وفيه جادت قريحة الشاعر بما لم تجد في الدورين السابقين، إذ ظهرت إلى الآن سبعة دواوين، ونحن ندعو الله أن يمد في حياته ويوفقه أكثر من ذلك، وفي هذا الدور أيضاً تمكن الشاعر من إبراز معالم فلسفته في شعره للعالم، وفيه تحققت رسالة شعره للعالم الإسلامي والشرق إذ كان في نفسه تتساجل روحان: روح المحب للجمال والمحبذ للعشق، وروح المسلم الشرفي المتحمس الثائر. فكان في الدورين الأولين الحظ الأوفر وفي هذا الدور للثانية.
حينما نحاول البحث عن العناصر التي تكونت منها نفسية الشاعر وشعره نجد أنهما قد تكونان من عناصر جمة، منها ما هو هبة من الله كالعبقرية والذكاء، ومنها ما هو وراثي غير كسبي، ومنها ما هو ثقافي كسبي، ومنها ما يرجع إلى البيئة سواء كانت جغرافية أم اجتماعية. فهذه الأصناف الأربعة من العناصر هي دعائم نفسية الشاعر ووطائد شعره.
أما العناصر الموهوبة مثل العبقرية وغيرها فلا يقدر الإنسان على الكشف عن حقائقها، ولا الفحص عن دقائقها، وما يقدر عليه هو وصف ظواهرها بالمقارنة. فإذا قارنا ظواهر عبقرية الدكتور وذكائه بالشعراء الآخرين نجد أنه فريد زمانه، وقريع دهره، قد أوتى عبقرية شاملة لا يدرك شأوها ولا يلحق غبارها، وذكاءً متوقداً لا يجاري، وقلباً عقولاً لا يباري، وحذقاً حاداً مساماته وفكراً نافذاً مجاراته، وبصيرة قوية لا يجري في مضمارها.
أما العناصر الوراثية فالدكتور من نسل آرى. والآريون يمتازون بدقة الفكر وسموا الخيال عن الشعوب الإنسانية الأخرى. ثم الدكتور ينتسب إلى طبقة البراهمة منهم، وهي طبقة قد سادت ولا تزال تسود بحدة ذكاءها ورحابة عقلها وحصافة رأيها جميع الطبقات الاجتماعية الأخرى في الهند منذ آلاف من السنين، فدقة الفكر وسمو الخيال بالقوة عنصران وراثيان هامان في نفسية الدكتور وشعره.
وأما العناصر الثقافية الكسبية فهي التي يكسبها الإنسان بواسطة التربية والتعليم. فقد بلغ فيهما الدكتور رفعة لا تسامى ومنزلة لا تغالب، إذ تعلم في معاهد الشرق والغرب ونال منها أرقى الشهادات وأعلاها بالتفوق والامتياز وهضم الثقافتين - الشرقية والغربية - في معناها الحقيقي. فهو على اطلاع تام بالفكر الشرقي - الهند والإيراني - بجلبه وخفية وتأريخه وتقدمه، كما هو عالم متجر في الفكر الغربي بجميع أدواره وتحولاته، سواء كان عند اليونان أو الرومان، أو الإنجليز أو الألمان، أو فرنسا أو أمريكا. وقد سبر الدكتور غور الفكر السامي العربي أيضاً وبخاصة الإسلامي منه كما تميط اللثام عن ذلك مصنفاته، وقد أشار إليه هو أيضاً في خطاب حيث قال:
(أنا قد صرفت معظم حياتي في دراسة فقه الإسلام وسياسته وحضارته ومدنيته وأدبه، فبناءً على دراستي الطويلة هذه وعلى العلاقة الخاصة التي لي بروح تعليم الإسلام اعتقد أنني على بصيرة أقدر بها أن أحكم على منزلة الإسلام في العالم من حيث الحقيقة العامة).
والدكتور حائز في جميع هذه العلوم والمعارف درجة الاجتهاد وأما العناصر التي ترجع إلى البيئة فهي صنفان: الاجتماعية والجغرافية. أما الاجتماعية فقد ولد الدكتور في مجتمع إسلامي وتربي فيه ودرس حاضره وماضيه، فهو كأحد أركانه من محبيه الأوفياء، وعشاقه الصادقين، ومن أكبر الطامحين إلى خيره ومجده، كما هو من كبار العارفين بحقيقته وصلاحيته. وهذا الحب، والعشق، والطموح، والمعرفة كعناصر البيئة الاجتماعية متجلية في نفسه الشاعر وشعره، وليس هذا التجلي عن عاطفة وتعصب، بل عن علم وعقل، كما سيظهر لك من المقال الذي سنخصصه لذلك في المستقبل إن شاء الله.
وأما عناصر البيئة الجغرافية. فقد ولد الدكتور في مقاطعة بنجاب وتربي فيها. وبنجاب أخصب المقاطعات الهندية في سفح جبال همالايا تجرى من تحتها خمسة أنهار. فهي بهوائها المعتدل ومناظرها الجميلة التي تفرح قلوب الشاهدين وتؤنس أبصار المبصرين، تملأ النفس بالمؤثرات القوية التي تربي الذوق وتقوى ملكة الشعر، وتغذي الفكر. فحسن الذوق، وحب الجمال، والتصرف فنون الشعر، وجولات الفكر المتجلية في شعر الدكتور ونفسيته فيها أثر للبيئة الجغرافية.
أما شعر إقبال من حيث الفن فسنتحدث عنه في مقال تال
السيد أبو النصر أحمد الحسني الهندي