مجلة الرسالة/العدد 114/المعنى والأسلوب
→ كيف ارتاد الشيخ رشيد مصر | مجلة الرسالة - العدد 114 المعنى والأسلوب [[مؤلف:|]] |
من تراثنا العلمي ← |
بتاريخ: 09 - 09 - 1935 |
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب جديد بهذا الاسم؛ لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني، ولا يرتفع الأديب إلى الذروة العليا في الأدب إلا باجتماعهما له
وقد كان كبار شعراء الإنجليزية - كشكسبير وملتون ووردزورث وتنيسون - يجمعون إلى خصب شعورهم بصيرة باللغة بعيدة ومقدرة على التصرف بمفرداتها وتراكيبها تصرفاً يبرز معانيهم في أحسن صورة، أما توماس هاردي فقصر به عن بلوغ ذروتهم - رغم خصوبة شاعريته - إعواز الرصانة في أسلوب شعره الذي هو أشبه بالنثر الجيد، وقصوره عن أولئك وتعابيرها، ومن ثم ينزله النقاد الإنجليز المرتبة الثانية بين شعرائهم
وقد كان للمعنى - المعنى الصادق الجدير بالتعبير عنه - المنزلة الأولى عند كبار الأدباء الإنجليز دائماً، وكان الأسلوب يحل عندهم في المحل الثاني، ويأتي لأداء المعنى لا ليحل محله أو يتحيَّفه، ولم يشتد الولع بالأسلوب إلى حد الإغراق إلا في عهد قصير في القرن الثامن عشر ما يزال يُعد أحط أزمان الشعر الإنجليزي، وسرعان ما تحرر الأدب من قيوده، وعاد كما كان تعبيراً صحيحاً عن الشعور الصادق في أسلوب طبيعي مستقيم
أما الأدب العربي فطغى الأسلوب على جانب كبير منه في مختلف عصوره وتحيف المعنى أو ألغاه: ففي الأدب العربي شعر ونثر كثيران يروع أسلوبهما والمعنى فيهما ضئيل هزيل أو مصطنع كاذب غير معبر عن شعور صحيح أو تفكير سليم، لأن الأديب قدم براعة الأسلوب على التعبير عن حقيقة خواطره أو الإتيان بمعنى جديد يستحق عناء الإنشاء
لقد كان العرب شعراء السليقة لا شك، يُحِلُّون الشعر أو الأدب عامة مكانة عالية ويحتفون به ويطربون له، حتى أوشك أن يكون فهم الجميل الوحيد، ولكن من العجيب بل من المؤسف أن الأدب العربي أحاطت به ظروف أزاغت نظرة كثير من أدبائه إلى الأدب أو وظيفته أو رسالته، وقد أشرت في كلمات سابقة إلى بعض تلك الظروف، ومنها دخول الأعاجم في اللسان العربي، واعتزال الأدباء مجتمعهم واعتمادهم على صلات الكبراء، وتغلب نزعة التقليد على نزعة التطور في الأدب العربي، واعتزاله غيره من الآداب القديمة والمعاصرة له إلى حد كبير
زاغت نظرة كثير من الأدباء إلى الأدب فحسبوه صنعة لا فناً جميلاً، وظنوا الغرض منه إظهار البراعة لا التعبير عن الشعور والفكر الصادقين، فجاءت آثارهم صناعة وبراعة خالية من المعاني الصادقة العالية والشعور العميق الصحيح: فالمقامات ورسائل الدواوين وأشعار النسيبِ الاستهلالي والمدح والهجاء المأجورين والفخر الأجوف، والمنثورُ والمنظومُ المرصعان بغرائب السجع والجناس والزِّواج والمقابلة وهلم جراً، كل هذه آثار أدبية قليلة الحظ من الصدق والحياة وعمق الفكرة، وإن تكن لها مزية فهي الأسلوب إن كان مُنشئها بارعاً
وهناك عدا ذلك آثار أدبية لم يقدم أصحابها الأسلوب على المعنى، ولكن المعنى فيها تافه بذاته غير ذي بال. فالأدب الرفيع هو ما تحدث عن مشاعر النفس العميقة وتأثراتها بأسباب الحياة، ومشاهد الكون، وتناول حياة الإنسانية على الإطلاق ناظراً في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، معبراً عن آمالها وآلامها، فأين من هذا خمريات أبي نواس ومقذعات جرير والفرزدق ومجونيات بشار؟ لقد كان هؤلاء شعراء صادقي المعاني في كثير مما قالوا رائعي الديباجة، ولكن شعرهم لتفاهة المواضيع التي سخروه فيها أو حطتها لا يرتفع إلى الطراز الأول من الشعر الإنساني، ولا تبقى له قيمة إذا جردته من أسلوبه الجزل
فإذا نظرت إلى كثير من منتجات أولئك الأدباء طالباً تلك النظرة الإنسانية العامة، وراغباً في شيء من الثقافة تضيفه إلى ما عندك، ومنتظراً أن ترى نفسية الأديب وشخصيته مرتسمتين في آثاره لم تصب من ذلك شيئاً، ولم تزدد علماً من دواوين وكتب كاملة بغير فائدة لغوية أو براعة لفظية أو تعبير جديد عن معنى متداول قديم
فإذا ألغيت من آداب اللغة كل الآثار التي لا تتعدى مزيتُها أسلوبها، والتي هزلت معانيها أو كذبت أو لم تزد على التمحل والمبالغة والتخريج والأغراب، لم يبق لك إلا القليل من الأدب السامي الذي اجتمعت له مزايا المعنى القيم والموضوع المهم المفيد والأسلوب المحكم، كأشعار الفحول في الحكمة والوصف الطبيعي والتعبير الصادق عن الوجدان والنسيب الحقيقي والحماسة وما إلى ذلك، وتلك دون غيرها هي الجديرة أن تسمى أدبا وهذه الآثار - وأحسن نماذجها حكمة المتنبي وأوصاف أبن الرومي وأبي تمام والبحتري ونظرات المعري ووجدانيات الشريف الرضى، ورسائل الجاحظ - هي خلاصة الثقافة هو بلا شك دون المحصول الذي يظفر به مطالع الأدب الإنجليزي، الذي أوسع أقطابه النفس الإنسانية والحياة البشرية والمحاسن الطبيعية درساً ووصفاً ومناجاة
لقد أشرت إلى الظروف التي أحاطت بالأدب العربي فأدخلت فيه كثيراً من زيف الصنعة وكاذب القول وغلَّبَتْ الأسلوب في كثير منه على المعنى، ولعل طبيعة اللغة العربية قد ساعدت على هذا التغليب، وأمدت لمن انصرفوا بكلياتهم إلى الأسلوب وجمعت حولهم المستجيدين: لما للغة العربية من بلاغة أصلية، وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في الآذان والنفوس من روعة وفتنة، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة واتساق بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يستولي على الألباب دون أن يبتدع في المعنى، كما يصرفك جمال اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به أحياناً
وقد زالت اليوم الظروف التي لابست الأدب العربي قديماً، فهبطت بمعاني الكثير منه وأدخلت عليه الزيف والصنعة وزيغ النظرة إلى الغرض منه، وما زالت للغة سعتها ومقدرتها وجمالها وموسيقاها، فإذا اجتمع صدقُ النظرة إلى الأدب ومطاوعةُ أداته وهي اللغة، إذا قرنت المعاني المبتكرة السامية إلى اللغة الفنية المساعدة، فما أجدر الأدب العربي أن يتبوأ منزلة عالية بين الآداب، وما أقوى الأمل في أن يفوق مستقبله كل ما عرف ماضيه
فخري أبو السعود