مجلة الرسالة/العدد 113/أسطورة يونانية (اورفيوس وبوريديس)
→ شاعرنا العالمي | مجلة الرسالة - العدد 113 أسطورة يونانية (اورفيوس وبوريديس) [[مؤلف:|]] |
ظمأ على ظمأ ← |
بتاريخ: 02 - 09 - 1935 |
الألم
(مهداة إلى شاعر يتألم: إلى الصديق محمد الفراتي)
للأستاذ خليل هنداوي
(أعيدوه إلى أرض الحياة وحده! إن عوده سيسكت إذا عادت معه، وان قيثارة الأرض ستنقص وتراً، إني أريده يغني فلا تعطوها له. نحن في السماء كما على الأرض نتلذذ بالآلام المولدة)
قد أَطرَبَ الطيرَ بأَنغامِه ... وسهَّدَ الوحشَ بألحانِهِ
يغيبُ عن إحساسهِ ذاهلاً ... منتقلاً في غير أوطانه
يشكو إلى القيثارِ أشجانَه ... فيملاُّ الكونَ بأشجانِهِ
سكرانُ! لا يُدرك ما مسَّه ... نشوانُ! لا يَخرجُ من حانِه
البحر والأمواجُ تصغي له ... والليلُ إن أَسبلَ أستارَه
يأوى إلى عزلتِه حائراً ... يُذيعُ في العزلةِ أسرارَه
ما باله يُعول قيثارُه ... فحطموا الليلةَ قيثارَه
هو الهوى امتدَّ إلى قلبه ... وأضرمَ الحبُّ به نارَه
وهذهِ من أيقظَتْ روحَه ... تسرَحُ في الغابةِ كالحالمه
خاليةُ القلبِ، تلاقي الفتى ... معرضةً عن حِّبه، واجمه
لا تفهمُ اليومَ نداء الهوى ... لا توقظوها! إنها نائمه
يا هائماً قد لجَّ منه الجوى=إنهَدْ إلى غانيةٍ هائمه. . .
سيفُتح القيثارُ من نفسِها ... ما تعجِزُ الأزهارُ عن فتحِه
ويفتحُ الألحانُ محزونُها ... جرحا بها أعمقَ مِن جرحهِ
وينقلُ النَّغمُ إلى سمعِها ... ما راحَ يشكو الصبُّ من برحهِ
لا تُنزِلي الرأفة في قلبها! ... فانما الإبداعُ في نوحهِ. . .
طفا على الكون سكونُ الدجى ... وقد غفا غيرُ عيونٍ الزهرْ وخفَّ في الأجواءِ عبقُ الشذا ... ونامتِ الأكوانُ إلا القَدَرْ
هبَّا إلى الرقص يُحيَّيهما ... في صفحةِ المشرقِ ضوءُ القمر
من يُنبئ الإلفينِ أن القضا ... مُبدِّلٌ صفوَهما بالكدر؟
تسلَّل الصلُّ إلى جسمِها ... بوخزةٍ من وَخَزاتِ المنونْ
فلم يكن في عمرها فسحةٌ ... فخاطَبتْ محبوبَها بالسكونْ
يا ليلةً ضلَّتْ مسراتُها! ... وما اهتدَتْ إلا عيونُ الشجونْ!
زَفوا عروسَ الموتِ يا ويلتا! ... للموتِ، ما تُغني فتاها الشئون
استنطَقَ القيثارَ لكنما ... قيثارُه المحزونُ لا يُسعدُ
سعى إلى وادي الردى ذاهلاً ... لكي يناجي روحَ من يعبُد
أصغى إليه الموتُ في فترةٍ ... فجاَءه يسألُ ما يقصدُ؟
فقال: والقيثارُ في شجوِه ... لي عندكم محبوبةٌ ترقدُ
يأيها النادي إلى عالمٍ! ... داخلُه المفقودُ لا يرجعٌ
ليس شفيعٌ للذي جاَءنا ... بمهجةٍ محزونةٍ يشفعُ
أجابَ عندي لكَ أغنيةٌ ... أنشدَها قلبي، فهل تسمعُ؟
ثم انبرى يَنفُثُ من حزنهِ ... ما تنهمي حزناً له الأدمعُ
رقت له زوجُ الردى فانثنت ... تستعطفُ الموتَ على من نزلْ
قالت له: عطفاً على هائمٍ ... ليس له من بعدها من أملْ. . .
أرجع إليه من سَبت عقله ... نوَّارةَ الوادي، ونورَ المقل
قد أرعنَ الوادي برناته ... ألم يُلن قلبك هذا الغَزَلْ؟
قال له الموتُ وقد راقُه ... ورق، والقلبُ أسيرُ النغمْ
أُخرج من الوادي، ولا تلتفت! ... إني معيدٌ خلقها من عَدَمْ
فحطَّمَ القيثارَ من بشرِه ... وخفَّ جذلانَ، سريعَ القدمْ
يسبق من تسري بأعراقها الروحُ وتهتزُّ اهتزَازَ النَّسَمْ
مشى وئيداً مرهفاً سمعه ... لعله يُصغِي إلى جرسها
أصغى إلى الأزهار من حولهِ ... أصغى، فلم يسمع سوى همسها الزهرُ والأعشابُ في يقظةٍ ... كأنها تمشي إلى عرسِها
أَوَقْعُها أَلينْ من وقعِها؟ ... أم حُّسها أرفقُ من حسِّها؟
رنا إلى خلفُ على رقبةٍ ... وقد عراه الشكُّ من عودِها
إن لم تعد حيةً فلأَعد! ... إنَّ الردى أهونُ من فقدِها
فأبصَرَ الغادةَ شفافةً ... كشعلةٍ تَسطعُ من وقدِها
ولمعةُ الأحلاِم في عينهِا ... وجذوةُ الأشواقِ في خدِّها
تقابلا! لكنَّ صوتَ الردى ... صاحَ، فحالَت كُتلةً من ترابْ
فلم يعانِقْ غير أحلامِه ... ولم يُشارِفْ غيرَ لمعِ السرابْ
وهاتفٍ صاح به: يا فتى ... عُدْ للهوى الباكي، وعُدْ للعذابْ
واحمل بقايا العود، لا تمتهِلْ ... حَرَقْتَهَا: ليس لها من إيابْ
غداً إذا آبَ وآلامهُ ... هادئةٌ، يسكُتُ قيثارُه
غذوه بالآلام لا ترأَفوا ... تَرِنُّ بالآلام أوتارُه
لا تقتلوا الأشجانَ في نفسِه ... تفيضُ بالأشجانِ أشعارُه
لولا الذي تسكُبُه يا ندى! ... ما ضحِكَتْ في الروضِ أزهارُه
لنا بآلامِ الورى لذةٌ ... وبالنَّدَى يُشرِقُ لونُ الزهَرْ
نريدُه يشدو لنا فليعدْ! ... حليفُه الهمُّ وطولُ الضجرْ
نريده يشدو فلا تَقطعوا ... من مِعزَف الألحانِ هذا الوترْ
قد يَطرَبُ اللهُ وأملاكُه ... لنكبةٍ تُنطِق قلبَ البشرْ
لِلأرضِ من قلب الفتى مِزقةٌ ... ومزقةٌ يرفعها للسماءْ
فوزعِ القلبَ على أهلهِ ... وامنحْ من الآلاِم معنى الهناءْ
خُلقتَ هتافاً فلا تبتئسْ=هل نتاجُ الطيرِ إلا غناءْ؟
إن تَبقَ منه بضعةٌ فلتكنْ=هديةً مشكورةً للفناءْ. . .
دمشق
خليل هنداوي